طالوق.. طريق الموت إلى مدينة الحياة مميز

  • الاشتراكي نت/ يحيى القباطي

الأحد, 17 تموز/يوليو 2016 17:59
قيم الموضوع
(1 تصويت)

نحن الآن نطل على تعز من علو ثلاثة آلاف متر، أعالي جبال مشرعة وحدنان الساعة الثانية والنصف ظهراً. الشمس في أوج حراراتها وأشعتها انعكست على مباني المدينة فصيرها كاللؤلؤ ونحن نحملق ناحيتها بعمق شوقاً وألماً. "سلام عليك يا تعز" قالها بحرقة أحد ركاب سيارة الصالون التي أقلتنا من مديرية المعافر مروراً بجبل "طالوق" حتى المدينة.

منذ أطلينا على تعز ساد صمت بين الأحد عشرة راكباً في السيارة، الجميع أخذه التفكير في تفاصيل الحرب التي تشن على مدينة تعز والتي أنساهم إياه مشقة سفر الساعات التي انقضت في مغامرة رحلتهم عبر طريق طالوق التي بدأت في الحادية عشر صباحاً من عزلة النشمة في مديرية المعافر التي كانت ملتقى جميع من استقلوا هذه السيارة قادمين من مديريات سامع ودبع والمعافر والمسراخ. أما أنا فكانت رحلتي الأكثر مشقة إذ لم استرد أنفاسي بعد رحلة ليست بالقصيرة حتى يخبرني رفيق رحلتي الزميل "راشد محمد" أن علينا الانطلاق من النشمة قاصدين مدينة تعز.

كنت وراشد قد وصلنا النشمة ظهر اليوم السابق لرحلتنا إلى تعز، وكانت مديرية "سامع" هي منطلقنا لهذه الرحلة بعد أن أنهينا مراسيم عرس الزميل "صامد السامعي". قطعنا عشرة أو ما يزيد قليلا من الكيلو مترات مشياً على الأقدام، لم نصادف سيارة تنقلنا ناحية "النشمة" قبل خمس ساعات من السير. أشفق علينا سائق سيارة كان يبيع التنانير، كان متجهاً إلى منطقة "العين" عزلة "بني يوسف" يالمواسط.

 بلغ الإنهاك منا مبلغه والإعياء قد استحوذ حتى على ألسنتنا فأخرسها عن الكلام، مما يصبرنا على كل هذا العناء هو امتداد مدرجات "بني يوسف" ووديانها الخضراء، على مد البصر ترتسم لوحة فنية خضراء تسر الناظرين. وفي الواقع كانت ثلاثية "الخضرة والماء والوجه الحسن" طاقة الدفع فينا. عشر دقائق كانت كافية لنا لاسترداد عافيتنا لإكمال السفر، لذا قررنا دون أن نهمس ببنت شفة أن نتوجه إلى بوفية لشرب العصير، ثم نواصل سيرنا بحثاً عن سيارة نحو النشمة.

في البدء اعتقدنا أن طريق سامع- المعافر ستكون مزدحمة بسيارات نقل البضائع والركاب قادمة من مديرية "دمنة خدير" كون هذه الطريق هي منطقة عبور غير مديرية، بعد إغلاق طريق الضباب. وأننا بكل سهولة سنسافر، ونسجنا في مخيلتنا خيوط الفيلم الذي سنعيشه خلال الرحلة، إلا أننا لم نكن على صواب في اعتقادنا وتكلفنا عناء الرحلة. كنا الاثنين وثالثنا طريق وعرة أدمت أقدامنا بعد أن نالت من أحذيتنا حجارة أشبه ما تكون بالسكاكين. كنا قد استطلعنا بأم أعيننا هذه الطريق على اعتبار انفرادها في العبور الآمن التي لم تصلها دناءة ميليشيا صالح والحوثي لتقطع شريانها المغذي لمديريات عدة، وقد لحظنا زحام العائدين من إجازة العيد في طريق قرية "الخضراء-سامع". خط سير متعاقب من عشرات السيارات تنقل المئات من المسافرين يذكرنا بنشاط النمل بذهابهن والإياب. ومع هذا فعامل الحظ وحده سيجعلك تصادف لك مساحة في سيارة من فرط زحام الركاب، أو سيارات نقل القات القادمة من الأرياف الشرقية ويرفض سائقوها الوقوف لأي راكب.

في منطقة "العين" اضطررنا للانتظار بجانب نقطة تفتيش تابعة للمقاومة الشعبية لسيارة متجهة إلى عزلة النشمة، وبعد انتظار غير قصير مر باص متجها إلى منطقة "الأحد" صعدنا وقد أهلكنا الحر وأعيانا حمل أمتعتنا على ظهورنا. وصلنا "الأحد" ولم تكن مرهقة كسابقاتها في البحث عن وسيلة نقل لإكمال رحلتنا. وفي عزلة "النشمة" قررنا أن نأخذ استراحة مسافر قبل مواصلة الطريق إلى تعز. تناولنا وجبة الغداء متأخراً، ولأن "راشد" لم ينم الليلة السابقة جيداً ومن إنهاك السفر توجه لدكان أحد الرفاق ونام فيه حتى المغرب، فيما توجهت أنا للمقيل مع شباب آخرين.

بحثت في دكاكين القرطاسية في عزلة النشمة عن "نوتة محاضرات" لكني لم أجد، قال أحد الباعة أنهم لم يستطيعوا إدخال البضائع إلى المنطقة، وأنهم يبيعون كل البضائع المكدسة في المخازن، أما الجديد فلم يدخلوها من فترة. الطريق المتاحة والوحيدة ليس بالسهل إيصال فيها البضائع الثقيلة إلى هذه المديريات، والبضائع الخفيفة والكماليات ليس من المعقول تحمل عناء السفر لإحضارها من أماكن بعيدة لأنها لا تحقق الكسب الوافر. فاستمرار الحصار وقطع طريق الضباب سيكلف المواطنين كثيراً من المعاناة.

في صباح اليوم التالي استوجب علينا إكمال رحلتنا كون اختبارات كلية الحقوق في جامعة تعز ستستأنف بعد يومين وراشد أحد طلابها. الطريق إلى "طالوق"، لن تجد صعوبة في إيجاد سيارة متجهة إلى هناك، لكنا في عجلة من الأمر استقلنا دراجة نارية حتى منطقة "نجد قسيم" اختصارا للوقت الذي سنقضيه في الزحام. ومن نجد قسيم فالحظوظ وافرة في إيجاد سيارة صوب تعز. تحتاج حاليا للانتقال إلى تعز من وقت ومال إلى ثلاثة أضعاف تكلفة قبل الحصار. انتظرنا وصول الركاب ولا معاناة تقابلها في الانتظار، فعشرات المسافرين متوجهين لأعمالهم في تعز من هذا المنفذ.

كنت رابع أربعة في الكرسي الأوسط فيما صعد راشد في مؤخرة السيارة فكان رابع أربعة أيضاً. انطلقت بنا السيارة بين وفرة من الخضرة وعلى إيقاع "أيوب طارش" الذي يألفها المسافرون في تعز. قيل أن أيوب يشغلنا عن التفكير في مشقة السفر، رد آخر "السفر ماهوش سفر بدون أيوب". نصف ساعة حتى نصل لـ "مقبرة طالوق" في مديرية المسراخ أسفل الجبل ونقيله الممتد بـ عشرة آلاف متر صعوداً خطراً ترى السيارة وكأنها تتسلق الجبل لا تعبره.

أن تمر من طالوق معناه أن نصف متر يفصلك عن الموت، وحده الحظ منقذك في طريق سقطت فيها سيارتان منذ إكمال الشق في أكتوبر العام الفائت على مرحلتين بتمويل حكومي بشق وسفلتة الطريق كي يكون منفذاً منقذاً للمدينة بعد الحصار المطبق، راشد محمد متذمراً من شق هذا الطريق يقول "هذا دوماً ما تتخذه الحكومة، حلولاً ترقيعية، كان الأحرى بها تحرير الخط الرئيسي".

يقول المواطنون أن سيارة تنقل البترول كانت متجهة إلى مشرعة لكن وعورة الطريق حالت دون وصولها فسقطت في الوادي باتجاه المقبرة فيها السائق ورفيقه فاحترقت بعد انفجار عنيف دوى في الوادي تفحمت الجثتين في السيارة، أما الأخرى فسيارة محملة بالبضائع مالت قليلا نتيجة ضيق مساحة الطريق، فحينما تتقابل سيارتان تضطر السيارة الصاعدة أن تعود للخلف بمجازفة حتى تصل لمساحة تسمح بمرور سيارتين، وما أقلها من أماكن. سقطت سيارة البضائع بعد أن قفز السائق منها وتعرض لكسر في يده، وتدحرجت باتجاه ضريح "السيد محمد" وسط النقيل، قبر يعود عمره لمئات السنين، من صادفناهم في طريقنا هناك لم يكونوا يعلمون عن هذا الضريح إلا اسمه.

عشرات الأفراد يطلون على وادي طالوق من وسط النقيل لمضغ القات والمقيل وتعبيد الطريق أمام المسافرين. الكرم في أسطورة "حاتم الطائي" ستجده بين أهالي مشرعة، الجميع يقبض يدك ويدعوك لتناول الغداء و شرب الماء، خلال رؤية الإنهاك الواضح حين تجبرك الطريق على ترك السيارة تصعد فارغة وتتبعها أنت مشياً على القدمين، أما نحن فكان من سوء حظنا أن سيارتنا لم تكن مهيئة بالقدر الكافي لصعود جبل كهذا، فتعرضت لأعطاب كثر أجبرتنا على المشي كثيراً.

كنت سعيداً بالمشي أكثر من الركوب في سيارة عابرة هذه الطريق، وأنا نشأت في بلاد جبلية وعرة إلا أن أنفاسي تقطعت وحلقي جف في هذه الطريق خوفاً وتعباً، وجزمت لرفيق رحلتي أنني لم أرى من قبل مثلها ولن أعبر مثلها ما حييت.

قصة المعراج هذه التي تبدأ من مقبرة طالوق في مديرية "المسراخ" وحتى الوصول أعلى جبال مشرعة وحدنان مع سائق صبري خمسيني العمر، ذو تجربة وخبرة في طرق كهذه كلفتنا ساعتين، مع وقوفنا لإصلاح السيارة ومشاجرة السائق مع بعض المارة والمسلحين الذين يقفون في النقيل لإجبار السائقين على دفع رسوم المرور 500 ريال على كل سيارة، لا أحد يعرف لصالح من عودتها ولا أحد يستطيع سؤال المسلحين عن صفتهم. كان توتر أعصابنا يجعلنا نعتقد أن الوقت أطول مما نعيشه.

"بقالة فك الحصار" تابعة لأحد المواطنين في المنطقة، اسمها ينبئ عن الإنقاذ لكن ليس لها من اسمها نصيب، طلبت من راشد أن يحضر لي الماء وكنت أنا مشغول بالحديث مع أحد الأهالي، كنت أسمع راشد وهو يتشاجر مع البقال الذي يبيع المواد بضعف السعر "أنتم تفكوا الحصار" فيرد البائع أنه لا يفك الحصار بالمجان، فاستجبت أنا ودفعت فارق السعر، وواصلنا سيرنا.

ما أن تكمل السيارة تسلق الجبل وتصل إلى طريق مستوية تواجه أول نقطة تفتيش مقاومة من أهالي المنطقة، يفرضون تفتيشاً دقيقاً ويطلبون من الجميع إبراز هوياتهم الشخصية للتعرف على مناطقهم. هناك نقطتان تفعلان الفعل نفسه، الثانية تقع عند مدخل قرى حدنان قبل أن تطل على مدينة تعز. قيل لي وقتها أن الخوف من تسلل أهالي قرية واقعة في جنوب صبر وهي قرية متواطئة في وصول مسلحي الحوثي إلى قراهم هو ما دفعهم لهذا التفتيش الدقيق.

في المربع نفسه صادفنا في الطريق تحرك طقمين تابعين لكتائب "حسم" احدى كتائب المقاومة، وتعرف بأنها احدى الفصائل الدينية مررت بمقرها في اليوم الثالث على وصولي المدينة في مؤسسة "السعيد الثقافية" وشعارها مكتوب على الباب "عماد هذا الدين كتاب يوجه وسيف ينتصر".

كانت النقطة الأولى التي وجدناها في أعالي "مشرعة" هي نهاية طريق الصعود ولم يبقى إلا قليلاً من المرور في طريق مستوية نوعاً ما وتبدأ الانحدار في نقيل حدنان وحتى حي "صينة" في تعز.

قبل أن نبدأ بالانحدار أثناء مرورنا في طريق مستوية ونستطيع أن نرى أفق تعز من أمامنا قبل أن نلتف يساراً ونهبط، رأينا على يميننا آثار قرية مدمرة عن بكرة أبيها، تبادر لذهني أن المكان امتلئ يوماً بالأسلحة فأغار عليه طيران التحالف كما تشابه علينا في أماكن عدة، غير أن صوت راشد نبهني من شرودي قائلا "هذه بيت الرميمة يا يحيى" أفقت بقوة حينها لالتقط لها الصور، وعادت لذهني ذكريات الجريمة التي تعرضت لها هذه القرية الصغيرة، الواقعة في عزلة "حدنان" على قمة مرتفعة مقابلة لقمة "العروس" منازل متراصصة لا تستطيع تقدير عددها بمجرد المرور خصوصاً وأنت مندهش من هول ما ترى. ما ارتكب في حق المكان يشيء عن غل تجاه القاطنين والسكن. راح ضحية هذه المجزرة 24 شخصاً من بيت الرميمة، ارتكبه أفراد متطرفون تابعون للمقاومة الشعبية بعد تطهير مديرية مشرعة وحدنان من الميليشيات الحوثية منتصف أغسطس الماضي. أكثرية سكان عزلة حدنان هم بيت الرميمة ويتبع أكثريتهم مكون أنصار الله سياسياً وميليشاوياً، ويتهمون من قبل المقاومة الشعبية في المديرية بأنهم متواطئون ومتخاذلون في الحرب التي تشنها ميليشيات الحوثي وصالح في مديريتهم ومدينتهم.

تركت خلفي بيت الرميمة وهاجسي منشغل بالذكريات قبل أن تقطعها ذكرى حدث مروع لا يقل عن سابقه. كانت أمامي آثار الدبابة التي قتلت المئات في مدينة تعز ودمرت منازلها. الدبابة المحروقة في قرية "ذي عنقب" كانت أول دبابة تصل إلى المنطقة وتقصف المدينة من علو أكثر من ألفي متر. استمرت الدبابة لأسابيع في قصف المدينة، وضمائر أهالي "مشرعة وحدنان" تتحرق ألما لأن ما يحصل من بين أيديهم لا يستطيعون ردعه. فنظم الأهالي مسيرة احتشدت إلى مكان تجمهر مسلحي الحوثي لإقناعهم بعدم القصف من منطقتهم، وكان من بين المتظاهرين السلميين "جمال سلطان" رجل أربعيني من أهالي المنطقة، ثارت ثائرته لما يحدث في المدينة فحمل معه البترول وسار متخفياً بين المتظاهرين حتى انتهت المسيرة بجانب الدبابة فاعتلاها جمال وصب البترول وأشعلها قبل أن يردوه المسلحون قتيلاً بعد نجاح مهمته في إيقاف القصف على المدينة.

"جمال سلطان" ما تزال ذكراه بين الأهالي ومثقفي المدينة واقعة لن تمحى. ويعد جمال ممن أشعل شرارة المقاومة الشعبية في منطقته، فبعد هذا الفعل وجهت ميليشيات الحوثي حربها ضد قرى مشرعة وحدنان استمرت لأشهر، استطاعت المقاومة في الأخير أن تدحر الميليشيات ووجهت انتقامها ممن كان متسبب في الحرب من الأهالي-كما ذكرنا سابقاً قصة بيت الرميمة، التي ارتكبت المقاومة في حقهم جريمة نالت من حقهم واعتبار نصرهم، اقتحام المنازل وقتل أهاليها بصورة بشعة والتنكيل بهم والتمثيل بأجسادهم، تنم الجريمة عن واقع غل وحقد فاعل وألم مناصر مما نالته المديرية من الميليشيات الحوثية وسط تخاذل وصمت بيت الرميمة. انتهت الجريمة لكن وقعها على الضمائر ما تزال حية.

من علو "حدنان" لا ترى آثار حرب على مدينة تعز إلا حين تصوب نظرك نحو "قلعة القاهرة"، هناك فاجعة بحجم تاريخها، لا أحد يستطيع الاقتراب من القلعة لإدراك هول الدمار فيها فما تزال المنطقة في خطر القصف المدفعي. أما بقية أجزاء المدينة فتراها جميلة كالعادة لم يشوهها عام ونصف حرب، لكن اقترب أكثر لتعرف...

 

لمتابعة قناة الاشتراكي نت على التليجرام

اشترك بالضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

 

قراءة 1881 مرات

من أحدث

المزيد في هذه الفئة : « استئناف مشاورات الكويت بعد الموافقة على تزمينها بأسبوعين وان تكون وفقاً للمرجعيات حجة..مواجهات عنيفة في الجبهات الحدودية والتحالف يستهدف المليشيات في حرض »

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى