اليمن بين الثورة والثورة المضادة (الحلقة التاسعة) مميز

الخميس, 08 كانون1/ديسمبر 2016 20:37 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

مسيرة اللقاء المشترك ومآله:

    مثل قيام اللقاء المشترك بُعيد حرب 1994م الملاذ السياسي والوطني الآمن لمواجهة ما ترتب على الحرب من انقسام وطني حاد: سياسي، اجتماعي وجهوي، في ظل اتجاه الدولة نحو الفشل ونظام عائلة علي عبدالله صالح نحو العجز التام، وهي ظروف مواتية لتنامي نفوذ التنظيمات الإرهابية: القاعدة، جيش عدن-أبين وأنصار الشريعة وغيرها من المسميات، وهي تنظيمات يربطها تحالف عضوي مع نظام الحكم، وكلما ضعفت شوكة الدولة وزاد عجز النظام اشتدت عرى هذا التحالف وتنامي أكثر دور الإرهاب. وازدادت أهمية اللقاء المشترك بظهور انقسام جديد غطاؤه عصبية سلالية وجغرافية مذهبية ممثلاً بالحركة الحوثية. بيد أن اللقاء المشترك في الظروف الجديدة يحتاج ليلعب دوره الفاعل على الصعيدين الوطني والقومي وتجاوز الانقسامات إلى تحالف واسع يمتد لعشرين سنة على الأقل ويتخلص من العناصر المعادية للعروبة لصالح التَّسيد الإيراني أو التركي.

      وتطور اللقاء المشترك خلال الممارسة العملية إلى أن صار تحالفاً فريداً من نوعه في الوطن العربي. إذ تأطرت فيه أحزاب تعتنق أيديولوجيات متعارضة: أممية وقومية ودينية، ومثلت أحزابه قوى سياسية واجتماعية كبيرة، وازداد نفوذاً وقوة بفضل توافقه على تصور مشترك للمستقبل: إزالة آثار حرب 1994م، وحل القضية الجنوبية، وإيجاد حل للصراع في صعدة. وإجمالاً مثل اللقاء المشترك يومئذٍ: ضرورة لمواجهة المخاطر الجسام وتحقيقاً لغايات أربع:

الأولى-مواجهة عنف الصراع الأيديولوجي-السياسي:

    وهي مواجهة كتب لها النجاح بفعل وجود الحزبين الأكثر صراعاً وصداماً مسلحاً في هذا الائتلاف، وهما: التجمع اليمني للإصلاح والحزب الاشتراكي اليمني. وبفضل اللقاء المشترك تحولت العلاقة بين الحزبين من العداء والحرب إلى التنسيق والتحالف. وفي ذات الوقت توارى التناقض بين التيار القومي الذي كان يمثله حينئذٍ: التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري وحزب البعث العربي الاشتراكي من جهة، والتيار الإسلامي ممثلاً في التجمع اليمني للإصلاح، حزب الحق واتحاد القوى الشعبية من جهة أخرى. وكان مكسباً للسمو فوق العصبية المذهبية بوجود أحزاب التيارين الإسلاميين في كتلة سياسية واحدة[1].

الثانية-الارتقاء فوق الحساسية الجيو-سياسية:

   لقد حشد نظام علي عبدالله صالح العائلي كل عوامل العصبية المقيتة لشن حرب 1994م وفرض استمرار نتائج الحرب ومنع التغيير. وأستخدم في سبيل ذلك العصيان والعصبيات المتعارضة في وقت واحد: مذهبية وسلالية وجغرافية. وكانت الوسيلة الوطنية للرقي والسمو فوق هذه العصبيات تبني مشروع وطني موحد للتحديث وإقامة الدولة الوطنية الحديثة-دولة القانون أو الدولة المدنية وقوامها المواطنة المتساوية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، علاوة على توفير شروط الانتقال الديمقراطي. فتبنى اللقاء المشترك هذا المشروع، وصهر أحزابه في إطار برنامج سياسي وطني، ونقل الأحزاب ذات المرجعية الدينية إلى مسار التحول إلى أحزاب سياسية مدنية، كما يتبين في الفقرة التالية.

 الثالثة-التغيير:

 اللقاء المشترك ومراحل تطوره:

أولها-من عام 1996م إلى 2005م، حيث أقتصر العمل المشترك في هذه المرحلة على نشاطات ذات طابع موسمي ومسائل جزئية: نزاهة الانتخابات، استقلالية وحرية مؤسسات المجتمع المدني ممثلة في الأحزابالسياسية، النقابات والمنظمات غير الحكومية، والتصدي لبعض المسائل الطارئة، مثل: مسعى الرئيس وعائلته وحزبه إلى تعديلات دستورية تجعله سلطة مطلقة ومؤبدة ومتوارثة.

ثانيتها-من عام 2005م إلى 2009م، تتطور برنامج اللقاء المشترك وشهدت الأحزاب ذات المرجعية الدينية تحولاً مهماً نحو تشكيل الحزب السياسي المدني، وأدى ذلك إلى توصل أحزاب اللقاء المشترك إلى صيغة تحالف يمتلك أطراً تنظيمية موحدة من خلال اللائحة التنظيمية والبرنامج سياسي: أي مشروع اللقاء المشترك للإصلاح السياسي والوطني الصادر أواخر عام 2005م.

ثالثتها-من عام 2009م إلى2011م، أنتقل اللقاء المشترك إلى طور التحالف الاستراتيجي لكتلة تاريخية للتغيير اتسعت لتشمل أحزاب وتيارات جديدة، بما فيها، الجماعة الحوثية التي كنا نعتقد أنها تسعى للشراكة وليس لإقامة نظام سلالي طائفي تجمع مصالح وقوى النظام البائد والنظام القديم، وصار لهذه الكتلة التاريخية، بغض النظر عن الخدعة الحوثية، أسساً ومبادئ وثائقية للتغيير والانتقال الديمقراطي: مشروع رؤية للإنقاذ مثلت إطاراً عاماً لانطلاق ثورة 11 فبراير 2011م ولمؤتمر الحوار الوطني.

   وبالعودة إلى الوثيقة نجد أنها تمثل الرؤية المشتركة للمستقبل الذي صار اللقاء المشترك وشركاه نواته الأولى وكانت هذه النواة الداعم الأول لانطلاق ثورة 11 فبراير. وكان لدعم اللقاء المشترك وشركاه للثورة الدور الأول في فرض طموحات الشعب اليمني في التغيير والتحديث والديمقراطية.

    بهذا حقق اللقاء المشترك أثراً عظيماً على برامج وسياسات أحزابه كافة، فتحولت برامج وسياسات أحزابه إلى السير على النهج الديمقراطي ووضعت الاعتبار الأول للمصالح الوطنية وليس للأيديولوجيا، وللمشترك وليس للمختلف، وأصبح أثر ذلك جلياً على مسار الأحزاب ذات المرجعية الدينية، إذ اتجهت أو سارت خطوات مطلوبة وضرورية نحو التحول إلى صيغة الحزب السياسي وتخلت عن خطاب التكفير والعصبية الطائفية والشعارات الدينية في العمل السياسي، وبالتالي قبلت أن تكون أحزاب سياسية شأنها شأن الأحزاب القومية أو الأممية، وهذا بدوره جعلها قادرة على الاستجابة لوحدة الموقف والمطالبة بالتغيير الديمقراطي.

     وهكذا مثل اللقاء المشترك وشركاؤه مصالحة سياسية وإعلان مختلف التيارات السياسية تخليها عن العنف والثأر والتخلص من أوزار الماضي ومن الهويات دون الوطنية والإقرار بضرورة التغيير الديمقراطي وأداته كتله تاريخية من أجل التغيير السلمي على أساس عقد اجتماعي جديد. وبذلك يكون اللقاء المشترك قد جعل من أحزابه وحلفائه السياسيين والاجتماعيين قوة سياسية فاعلة قادرة على التغيير والتعبير عن الهوية الوطنية الجامعة، وتبنت جميع أحزابه النهج الديمقراطي والدولة المدنية الحديثة، مما جعلها قوة للتغيير وليس للتدمير.

    لقد راكمت تجربة اللقاء المشترك رؤية معرفية للتغيير وأدوات ووسائل لإحداثه. وتجسد ذلك، بدرجة أساسية، في وثيقتي: مشروع رؤية للإنقاذ الوطني 2009م ومشروع اللقاء المشترك للإصلاح السياسي والوطني 2005م.

 الرابعة: تفويت فرص الحرب الأهلية:

     بعد أن عجز نظام علي عبدالله صالح عن إجراء الانتخابات النيابية في 27 أبريل 2009م وعن القضاء على القضية الجنوبية وتمرد الحوثي في صعدة، باشر في اتخاذ تدابير تغطي على هذا العجز، بالاتجاه نحو الانقلاب على النظام الجمهوري وعلى المظهر الديمقراطي وإشعال حرب أهلية. وكان من أخطر تلك التدابير ما يلي:

الإعداد لحرب أهلية في كل أنحاء اليمن بدءاً بتشكيل ما سميت بـ(لجان الدفاع عن الوحدة، وكتائب الجهاد في صعدة) وبالتنسيق مع التنظيم الإرهابي (التنظيم السروري) الذي يخترق أحد أحزاب اللقاء المشترك، وهو تنظيم كان ولا يزال يمثل النسق الثاني للثورة المضادة ويسعى لاستعادة سيطرة عناصره على التجمع اليمني للإصلاح وعلى خارجه.

إعداد مشاريع قوانين تجرم حرية العمل السياسي، وفي مقدمة ذلك: حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي، بفرض عقوبات على حرية الرأي والتعبير تصل إلى السجن عشر سنوات والإعدام، ومنح الشرطة صلاحية قمع التجمعات السلمية، بما في ذلك: استخدام القوة المفرطة وتشمل القتل، وإعطاء الجهات الإدارية صلاحية إيقاف نشاط الأحزاب والتنصت على قيادات المعارضة والنشطاء السياسيين[2].

   وواجه اللقاء المشترك مسعى السلطة بتدابير مقابلة كان أهمها وضع رؤية شاملة للتغيير "مشروع رؤية للإنقاذ الوطني" والترتيب لعقد مؤتمر حوار وطني لمناقشة المشروع والتوافق عليه بين مختلف الأطراف والقوى السياسية. واشتملت التدابير على رؤية لمشروع الدولة الوطنية-دولة القانون أو الدولة المدنية وإزالة آثار الصراعات السياسية وفي المقدمة آثار حرب 1994م من خلال هيئة للإنصاف والمصالحة تتولى تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.

     وتواصلت جهود اللقاء المشترك لتحقيق مشروعه، ومن ذلك تقديم مبادرة إلى النظام وحزبه للشراكة في مؤتمر الحوار المزمع عقده، ومضمون الإصلاح الديمقراطي وموضوعاته التي يجب طرحها على مؤتمر الحوار الوطني ومن ذلك:

بناء الدولة اللاَّمركزية، والنظام السياسي وتوازن السلطات، والتنمية الاقتصادية المتوازنة بين أجزاء الجمهورية وتوزيع الثروة، وبناء مؤسستي الجيش والأمن على أسس وطنية، والاتفاق على أسس وضمانات نجاح الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة[3]. وقد وافق النظام وحزبه على المبادرة مجبراً بفضل الموقف الموحد لأحزاب اللقاء المشترك، لكن النظام كرر تكتيكي الموافقة والتخلي، حتى تخلى عن موافقته على عقد مؤتمر حوار وطني وعاد إلى تدابيره الانقلابية على النظام الجمهوري وأسس الديمقراطية ووحدة 22 مايو، من خلال إقرار كتلة المؤتمر الشعبي في مجلس النواب من حيث المبدأ تعديل الدستور بما يحقق أهداف الانقلاب، وجميعها في تقديرنا مؤشرات تراكمية كمية لحالة ثورة مضادة، كان النظام يديرها ويعدلها، عنوانها البارز قضية (التوريث) التي بدأ نظام صالح يشتغل عليها منذ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي.

     وتمكن اللقاء المشترك من إحباط هذا المسعى بإعلان الهبة الشعبية وتنظيم اعتصامات ومسيرات ضخمة في كافة أنحاء الجمهورية، وإقرار السير في التحضير لعقد مؤتمر الحوار الوطني في الثلث الأول من عام 2011م دون مشاركة السلطة. ومهدت هذه الخطوات والتدابير، إلى جانب شروط موضوعية وذاتية عديدة، لاندلاع الثورة الشبابية الشعبية، ولم يمنعها تراجع النظام عن إجراء انتخابات انفرادية وقبوله المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني.

    لقد كان من عوامل نجاح اللقاء المشترك ليس الموقف الموحد فقط، بل تبني مشروع وطني جامع والقبول بالآخر المختلف كالجماعة الحوثية، ورفض العنف. فتحقق بفضل ذلك صمود ثورة 11 فبراير 2011م. وبذلك تمكن اللقاء المشترك من درء الحرب الأهلية وتوفير الأسس والشروط الموضوعية والذاتية لنقل السلطة سلمياً وتحقيق التحول الديمقراطي بالتوافق. ومن هذا المنطلق وقعت أحزابه على اتفاقيتي المبادرة الخليجية وآلية تنفيذ العملية الانتقالية اللتين عبرتا عن التوافق على الانتقال الديمقراطي وبخطوات محددة، واشتملتا على أسس بناء الدولة المدنية وتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. وكان من أهم نتائج هذين الاتفاقين عقد مؤتمر الحوار الوطني الذي كان اللقاء المشترك يسعى لعقده وكان من ثماره تحقق التوافق الوطني على نهج التغيير، وتحديد أسس الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة، والتوافق على أسس ومبادئ العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. ويحسب للمشترك أنه تعامل بأفق مفتوح مع مختلف القوى. وتجسد ذلك بمشاركة الفئات التي كان لها الدور الأساس في الثورة: الشباب والحراك الجنوبي والمرأة وكان متفوقاً بتبني مشاركة الحوثيين الذين لم يكونوا مأمونين الجانب، فكان هذا تصرفاً سياسياً مسؤولاً يحسب للقاء المشترك وليس عليه.

    لقد مثل اللقاء المشترك النواة الصلبة لكتلة تاريخية للتغيير، وتحالفاً فريداً من نوعه في الوطن العربي. وعبر عن مصالح قوى سياسية واجتماعية كبيرة، وجعل هذا التحالف من أحزابه تنظيمات عابرة للطوائف أو مؤهلة لذلك. ولعل هذا كان المصدر الأساس لقوة اللقاء المشترك إلى جانب تبنيه رؤية موحدة للمستقبل والتوافق عليها وعمادها إقامة الدولة المدنية الكفيلة بضمان المواطنة المتساوية وحكم القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.

     بيد أن انعقاد مؤتمر الحوار الوطني قد تم في ظرف تشرذم فيه اللقاء المشترك وصارت بعض أحزابه أقرب للنظام القديم ممثلاً بالمؤتمر الشعبي العام، وكانت هذه الحالة فرصة سانحة لتوجيه النظام القديم سهامه إلى اللقاء المشترك لكي يتسنى له الإعداد للثورة المضادة وإشعال حرب أهلية في البلاد وهذا ما تحقق. وفي ذات الوقت أستخدم عناصره في أحزاب اللقاء المشترك للعمل من أجل القضاء عليه وتكبير حجم الخلافات البسيطة.

  عند اندلاع ثورة 11 فبراير 2011م سعى نظام علي عبدالله صالح وعائلته إلى إشعال فتنة طائفية وحرب أهلية، لكن اللقاء المشترك تمكن وبوعي شباب ساحات الحرية والتغيير من تفويت هذه الفرصة. وتم تلقي الرصاص في الساحات دون اللجوء إلى السلاح. ولم يلجأ إلى السلاح حتى أبناء القبائل المسلحة عدا حالات استثنائية قليلة. وهنا لاحت إمكانية تحقيق النظام القديم ما عجز عن تحقيقه أثناء الثورة من تحويل الصراع السياسي إلى صراع طائفي. ومن أجل إنجاح مخططه كان لأبد من تفكيك موقف اللقاء المشترك أولاً والتوسل بالحوثي لاستخدام الورقة الطائفية، ومن أجل تحقيق هذه الغاية لجأ إلى:

حرك النظام القديم وعبر الأجهزة الأمنية حلفائه وعناصره في مختلف الأحزاب ضد اللقاء المشترك وباتجاهات متعارضة فحرك التنظيم السروري في التجمع اليمني للإصلاح ضد اللقاء المشترك بحجة أنه يتعامل مع الروافض ويتبنى الدولة المدنية. ولأجل ذلك دبج هذا التنظيم المحاضرات والندوات والكتب لرفض فخ الدولة المدنية كما يدعون. وتحركت عناصر الأجهزة الأمنية المدسوسة في الأحزاب الأخرى نحو التحوث والدعوة للقضاء على اللقاء المشترك لأن فيه التجمع اليمني للإصلاح الذي يفرض الإيديولوجيا الوهابية أو الطائفية، واستخدمت هذه الحالة في كافة الأحزاب: الاشتراكي، والناصري، وحزب الحق والبعث واتحاد القوى الشعبية، ووصل الأمر في بعض الأحزاب إلى تحوث جل القيادة العليا، مثل: حزب الحق، أو استيلاء المتحوثين على قيادة الحزب بالقوة، مثل: حزب البعث العربي الاشتراكي.

التحالف مع الحوثي وتجنيد الآلاف بمعيار طائفي: سلالي-مذهبي وهنا تشابكت مصالح قوى النظام القديم والبائد، بما في ذلك في أجهزة الجيش والأمن، وصار هذا الاختلاط كلي بعد انقلاب 21سبتمبر 2014م.

    من هنا كان موقف خذلان أحزاب اللقاء المشترك لثورة التغيير ولبعضها البعض من أهم أسباب نجاح الثورة المضادة التي قام بها تحالف النظام القديم والبائد في الانقلاب وإدخال اليمن في حرب أهلية.

    وينبغي التساؤل هنا: هل يعود فشل اللقاء المشترك في الحفاظ على منجز ثورة 11 فبراير 2011م والمتمثل في الإقرار الوطني والدولي بضرورة التغيير وبناء نظام سياسي جديد وإقامة الدولة المدنية عبر التحول الديمقراطي إلى أن مهمة اللقاء المشترك قد استنفدت، وإلى كون الضرورة التي أدت إلى قيام الثورة لم تعد قائمة أو قد انتفت؟

   لا تستطيع الإجابة الموضوعية عن الشق الأول من السؤال إلا أن تعترف بأن نجاح الثورة المضادة في الانقلاب على عملية الانتقال الديمقراطي والاستيلاء على السلطة يرجع إلى استراتيجية الفشل التي تبناها النظام القديم بالتحالف مع النظام البائد. لكن ما كان لهذه الاستراتيجية أن تحقق النجاح لو لم يتخذ اللقاء المشترك موقف الخذلان لبعضه البعض، وتخليه عن مهمة ضمان إنجاح الانتقال الديمقراطي، والانشغال بصغائر الأمور. لأن الطموح عندما يتوقف عند مكاسب آنية وصغيرة يقود حتماً إلى الفشل وفقدان حتى هذه المصالح الصغيرة في نهاية المطاف. غير أن هذا لا يعني أن أحزاب اللقاء المشترك هي المسئول الوحيد عن تمكين الثورة المضادة من الانقلاب، لكنها بالتأكيد المسئول الأول، لأنها كانت المعنية بتحقيق أهداف ثورة فبراير.      

   إذن، الإجابة عن الشق الأول من السؤال، نعم، مع الأسف. وتحتاج الإجابة على الشق الثاني من السؤال إلى استعراض سريع لما يجري اليوم لكي نقول ما إذا كان اللقاء المشترك قد استنفد مهامه أو أن ضرورة وجوده لم تعد قائمة أم لا.

    يتبين مما تقدم أن ثمة مهام محددة وواضحة وضعها اللقاء المشترك على عاتقه، تتلخص في التغيير عبر التحول الديمقراطي وإقامة الدولة المدنية. فهل تحققت هذه المهام حتى يقال إن اللقاء المشترك قد استنفد مهامه؟

   بالطبع، ليس فقط لم تتحقق بعد هذه المهام، بل انزلق اليمن إلى الحرب الأهلية وصار الكيان الوطني ووحدة التراب الوطني مهدداً في وجوده. بل أن المستجدات تجعل اللقاء المشترك أكثر من ضرورة سياسية ووطنية، ولكن في إطار ومحتوى جديد يستوعب المستجدات والقوى الجديدة. ولعل مرد الخذلان الذي مارسته أحزاب اللقاء المشترك، ولاسيما التجمع اليمني للإصلاح والحزب الاشتراكي اليمني والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، إلى أن هذه الأحزاب لم تقدر خطورة دورها في إنجاح ثورة فبراير وتحقيق أهدافها أو خطر فشل التغيير بسببها. لكن المستجد اليوم أن هذه الأحزاب والتي لم تتخل عن تحقيق أهداف الثورة ورفضت القبول بالثورة المضادة قد وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام نتائج ما مارسته من خذلان، وأخطر هذه النتائج الحرب الأهلية التي فرضها انقلاب تتوفر فيه كل عناصر الديكتاتورية الفاشية، وأهمها ادعاء التفوق والتميز العرقي والجغرافي والمذهبي، وادعاء الحق الإلهي والتاريخي في الحكم، وفرض ذلك بقوة السلاح.

     اليمن اليوم أمام تحدي بقاء الكيان الموحد ووحدة التراب الوطني والهوية اليمنية. وتتولى القيام بهذا التدمير والتمزيق كتل صماء: سلالية-مذهبية-جهوية، وهي عصبيات تتدثر بنشر خرافة التميز العرقي والحق الإلهي أو الجغرافي أو التاريخي في التسيَّد أو التمزيق. وتقوم زعامات هذه العصبيات بنشر هذه الخرافات لاستعادة السلطة المطلقة واحتكارها.

    من أجل إنجاح مسعى التمزيق تضفي الكتل الصماء القداسة على قيادتها ومنها قوى سياسية وعسكرية وتنظيمات إرهابية: المؤتمر الشعبي-زعيمه المقدس علي عبدالله صالح، وأنصار الله-زعيمهم المقدس عبدالملك الحوثي، والتنظيم السروري-زعيمه المقدس عبدالمجيد الزنداني، ولهؤلاء جميعاً مشاريع طائفية-جهوية-تمزيقية، تجاريها مشاريع تمزيقية أخرى تدعي هويات غير الهوية اليمنية، وجميعها برغم التعارض الظاهر تشكل ثورة مضادة بنسقين: ولاية الفقيه-ورثة الأنبياء.

   إذن نحن أمام حالة تمزيقية وهويات غير وطنية وتفتيتيه وعنصرية-فاشية. وتستمد فاشية علي عبدالله صالح والحوثي من موروث مظلم كانت حرب 1994م مناسبة لاستعادته وممارسته في الواقع. وجرى تكرار هذه الممارسة عام 2015م. ونحن الأن أمام دعوات وممارسة للهوية التمزيقية بصورة علنية ودون مواربة، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، بادعاء هويات جنوبية وأخرى شمالية، وسيؤدي القبول بهذه الهويات التمزيقية التدميرية إلى هويات متعددة في الشمال والجنوب، وإلى استمرار الحرب، وتعمق الطائفية-الفاشية، بادعاء التميز السلالي أو الجهوي أو المذهبي.

   أمام هذا الخطر العظيم يحتاج اليمن إلى وجود كتلة تاريخية نواتها اللقاء المشترك بأحزابه التي لا زالت تتبني مشروعاً وطنياً جامعاً-إقامة الدولة الوطنية الحديثة الاتحادية-الدولة المدنية، وهي بالتأكيد مضطرة للتخلص من العناصر والتيارات التي تتبنى الهويات التمزيقية، السلالية والجهوية والمذهبية.

   إذن، لم تستنفد مهام اللقاء المشترك، بل ازدادت تعقيداً وإلحاحاً، وتعاظم الخطر على اليمن ووحدة كيانه وترابه الوطني، الأمر الذي يستدعي استعادة اللقاء المشترك ووضع خطة لكي يتم بناء كتلة تاريخية للأحزاب السياسية تستأنف مهام اللقاء المشترك بكفاءة أعلى وروح جديدة. وهذا أمر يتطلب ما يلي:

التقييم المشترك لمسيرة اللقاء المشترك ومناقشة أسباب الفشل بصراحة ووضوح الحريصين على استعادة هذا التحالف وجعله أساساً لكتلة تاريخية تحمل مشروعاً سياسياً وطنياً جامعاً وتعمل على استعادة الدولة والانطلاق إلى رحاب جديدة وفي مقدمتها العودة إلى العملية السياسية وتنفيذ مهام الانتقال الديمقراطي.

حشد كل الطاقات للقضاء على الانقلاب ونفي كل ممارسة طائفية: سلالية أو جهوية أو مذهبية.

لقد أدت الحرب والتمترس وراء السلاح إلى تراجع دور السياسة ودور الأحزاب السياسية. وسيجد اليمنيون أنفسهم بعد إيقاف الحرب أمام عصبيات متعددة وتعددية عصبوية وفراغ سياسي لا يمكن تجاوز مخاطرهما إلا من خلال تنظيمات سياسية عابرة للطائفية والعصبيات التمزيقية، تأتلف في كتلة تاريخية للتغيير تكون حاملاً لمشروع الدولة الوطنية الحديثة، وتسهم بفعالية ليس في إنجاز ما تبقى من مهام الفترة الانتقالية فحسب، بل وتتصدى للمهام المترتبة على الحرب وفي مقدمتها استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب وإزالة آثار الحرب وإعادة إعمار البلاد.

   بيد أن هذه المهام تتطلب مغادرة الأحزاب السياسية حالة الاستكانة والاستسلام للأمر الواقع، وأن تستعيد دورها بنفسها من خلال المبادرة في صنع القرار وتوحيد صفوفها وفعلها، للتأثير على ما يجري في الساحة الوطنية، والقيام بدبلوماسية واسعة على الصعيد الدولي، والعمل للتأثير على مواقف دول الإقليم ودول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة البريطانية والولايات المتحدة الامريكية وروسيا الاتحادية والصين بموقف موحد ومتحد لإنقاذ اليمن من حكم الانقلاب وإنهاء الحرب.

هوامش


[1]- حول التطورات التي أحدثها اللقاء المشترك على الصعيدين البرنامجي والسياسي لكل من الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح. راجع. محمد أحمد علي: التغيير-الإصلاح الديمقراطي في اليمن- ضروراته...معوقاته، صنعاء 2011م، صـــ65ومابعدها.

[2]- حول هذه المشاريع راجع: د/ محمد أحمد علي: التغيير-الإصلاح الديمقراطي في اليمن، مرجع سابق صـــ145.

[3]- راجع. المصدر السابق.

قراءة 2954 مرات آخر تعديل على الجمعة, 09 كانون1/ديسمبر 2016 19:51

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة