أنيس حسن يحيى.. الإنسان والموقف والتاريخ

الجمعة, 05 تشرين2/نوفمبر 2021 19:36 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

(1)

قبل البدء..

أحاول في هذه السطور/ التحية ، ليس تقديم سيرة سياسية تاريخية عن وحول الأستاذ / أنيس حسن يحيى، قدر ما هي تداعيات وجدانية من القلب إلى اسم يستحق ما هو أكثر من ذلك.. هي تداعيات ذاتية يتداخل فيها السياسي بالثقافي بالوطني لرحلة كفاح مديدة هي إلى الفروسية أقرب.

1-أنيس البدايات والحياة:

حين بدأت التفكير بالكتابة عن المثقف العضوي، والمفكر السياسي ورجل التنوير (الحداثي)، رجل الدولة الأستاذ/ أنيس حسن يحيى، وجدت نفسي حائراً من أين أبدأ، فكل مشواره مع الحياة بدايات سياسية، وتربية مدنية، وقيمية لا تنتهي، جميعها تقود إلى معنى الحرية، و إلى معنى الوطن" اليمن الديمقراطي الموحد" .. بدايات جميعها تؤسس لمعنى السياسة المدنية، والتنظيم الحزبي الوطني القومي واليساري التقدمي الاشتراكي.

فيض من القول يجتاحني،  يتزاحم ويشتبك مع بعضه البعض: من أين أبدأ في الكتابة عن قائد جمع أشتات المعاني في ذاته، اسم ملأ الساحة السياسية والفكرية والثقافية حضوراً طيلة أكثر من سته عقود متواصلة، لدرجة أن الكتابة عنه صارت مستعصية على مثلي؟ وقد يكون في ذلك تفسيراً لما تكاد تكون الكتابة عن مثل هذه القامة الفارعة/ المديدة، بكل المعاني والأدوار، شحيحة حد الغياب بما لا يتناسب مع مكانة الاسم والدور، الاسم الكبير والفاعل في التاريخ السياسي اليمني المعاصر. وهذه في تقديري واحدة من المفارقات العجيبة غير السارة في حياتنا الثقافية والسياسية اليوم وفي الأمس. وهذا الأمر ينسحب على أسماء عظيمة عديدة، وهو - قطعاً - أمر سالب يتم مع وتجاه أسماء فاعلة ومؤثرة في صناعة مجد هذا الوطن طيلة ما يزيد على ستين عاماً من الكفاح السياسي والمدني والديمقراطي.. أسماء وقامات العديد منها ما يزال حاضراً فعلاً وعطاءً حتى هذه اللحظة، وبلا حدود. هل لمكانة الاسم ومهابته دور في ذلك، خشية عدم الإيفاء بما  يجب أن يقال ؟! هل هي الانكسارات الذاتية والاحباطات السياسية التي نمر بها منذ أكثر من عقدين من الزمن؟ هل هي قوة العادة السلبية، أن لا نحكي فيها وخلالها عن الأسماء الجميلة والنبيلة إلا بعد رحيلها عن دنيانا، وكأننا نبخل عليها/ عليهم، في التكريم وهم بيننا، وكأن الموت هو التيمة والتميمة التي تجمعنا وتوحدنا (المصائب)، بما يعني ضعف حضور معنى الحياة في يومياتنا في مقابل الموت الذي يتسيد المشهد، ويطغى على كل شيئ؟! أسئلة لا أمتلك أجابة محددة وواضحة عنها وحولها. والمصيبة أن هذا الأمر ينطبق علينا كأفراد، وحتى الأصدقاء، ومؤسسات دولة، ومجتمع ثقافي ومدني.

وفي هذا المقام، من المهم الإشارة إلى أن الكتابة عن هذه الأسماء والهامات الرفيعة المقام، يجب أن لا تأتي كرفع للعتب أو كأداء واجب أو لاستكمال طقوس مناسباتية تذكرنا بهم، لأن الأهم أن تأتي كتابة صادرة من أعماقنا كواجب سياسي ووطني وتاريخي، كتابة نتدبر فيها ما كان/ ما كانوا عليه، وما جسدوه ومثلوه في حياة هذا الشعب والبلد، كتابة تحفزنا للتغيير، وللبدء من حيث كانوا، ومواصلة للمشوار السياسي والفكري والقيمي الذي مثلوه وجسدوه في حياتهم الخاصة والعامة.

البدايات التوثيقية بالسنوات في حياة مثل هذه الأسماء، أنيس حسن يحيى، ورفاقه، قطعاً مهمة وهي قد تكون معلومة ومفيدة لمن أراد ، بالعودة إلى أرشيف ذاكرة الزمن التاريخي، على أنها لا تهمني هنا، لأنني لست بصدد كتابة توثيقية تاريخية، فهذه مهمة أتركها للمعنيين بذلك.

حياته –أنيس- بداية لا تتوقف في الحياة، هي بداية مع كل يوم جديد، بمعنى أنه لا يشيخ بالمعنى العقلي والإبداعي والإنساني، يتقدم في العمر، ويتقدم في الإبداع العقلي/ الإنساني ، يتذكر ما قيل باعتباره شريط ذكريات له صلة وصل بالحاضر، ويوصل إلى المستقبل. هذا ما يعنيه وما يهمه.. أنيس حسن يحيى عقل مؤسسي في مواجهة ثقافة تاريخية (مجتمعية/ وسياسية) لا مؤسسية، ولذلك كان رجل نظام وقانون وإدارة في صورة مثالية. وبهذا المعنى هو رجل دولة بامتياز.

 يكتب ويفكر ويحاور من حوله، ويمارس الحياة في تفاصيلها الصغيرة والكبيرة بعقل مفتوح، عقل رجل الدولة المدني الديمقراطي، وهو أمر ثقيل على البعض، ولا يتقبلونه بسهولة، لأن حالة الفوضى والبدائية والعصبية عندهم  هي النظام العام .. أنيس، شخصية فاعلة مبادرة، يفعل ما يقوله، ويكتب ما يمارسه، الفكر/ والفكرة في عقله وحياته تخدم تأصيل وترسيخ معنى التحديث في المجتمع، والحداثة في الفكر، وتوصل إلى المستقبل. ولذلك يبقى الماضي في عقله خلفية بانورامية، لما كان، وليس أساساً لما ينبغي من الفعل كما هو عند البعض.

أنيس حسن يحيى إنسان بسيط وكبير، متواضع بسمو، متعالٍ على الصغائر، إنسان "جبل من تراب الأرض" كما جاء في (سفر التكوين/ في الكتاب المقدس).

شعرت بارتياح عظيم حين علمت أن "شباب الاشتراكي" ، عبر "منظمة تعز "، وقيادتها الحزبية، وبالاشتراك مع القطاع الطلابي في الخارج، هم من بادروا إلى تبني الفكرة في الدعوة لإقامة ندوة فكرية/  سياسية عن الأستاذ/ أنيس حسن يحيى، وهو استشعار واع مدرك لمعنى القيمة السياسية، والرمزية والمعنوية التي يمثلها اسم الأستاذ/ أنيس في حياة اليمن المعاصر، ودائماً الشباب: فتاة وفتى، امرأة ورجل ، هم السباقون للمبادرة.. أدركوا قبل غيرهم أن الانطلاق بثقة وإرادة مكتملة نحو المستقبل لا تكون إلا بدارسة التاريخ الذاتي/ السياسي لما كان، لمن ساهموا في صناعة المجد السياسي والفكري والثقافي والوطني للإنسان اليمني المعاصر، وأنيس حسن يحيى واحد من أهم وأبرز هذه الأسماء.

إن مبادرة "منظمة تعز "، والقطاع الطلابي في الخارج، إنما هي أولاً، تأكيد على التواصل الإبداعي الخلاق بين الأجيال: بين جيل حاضر شاب يرنو إلى المستقبل، وفارس سياسي كبير يختزن في داخله تجربة ثلاثة أجيال متصلة ، وثانياً، هي بمثابة تجسبر للفجوة بين الأجيال، تواصل إبداعي للخبرات، وتأكيد على التواصل الإبداعي للمعرفة بالحياة والناس والتاريخ. فإذا كانت الخبرة، كما يقول أحدهم ، هي مجموعة أخطاء، فعلى الأقل فإن التواصل مع مثل هذه الأسماء من قبل الشباب، يسهل تجاوزهم لأخطاء كانت، ويمنع وقوعهم في أخطاء يمكن تجنبها من خلال ذلك التواصل الإبداعي.

وأتمنى على منظمة الاشتراكي في تعز، وكل الحزب (منظماته) أن يؤسسوا ويكرسوا وينظموا مثل هذا التواصل بصورة أشمل وأوسع، بالغوص في تفاصيل ذلك التاريخ، ومن خلال هذه الأسماء الكبيرة الحاضرة بيننا، وهي في تقديري مهمة سياسية وفكرية وتاريخية، يجب أن ندخل إليها جميعاً، كأفراد ومؤسسات ثقافية، في صورة عمل منظم منهجي، نعيد من خلاله قراءة ما كان برؤى تحليلية نقدية، وحتى لا يغادرنا بعض من ساهموا في صناعة ذلك السفر السياسي والتاريخي، ومعهم تفاصيل سردية تاريخية تهم كل المجتمع السياسي والثقافي والوطني.

فتحية لشباب الاشتراكي، و"لمنظمة تعز"، وللقطاع الطلابي في الخارج جميل التحايا.

 (٢)  

2-أنيس: الكتابة والتاريخ:

جرت العادة أن أصحاب الخبرات السياسية والاجتماعية والثقافية الطويلة، ومن راكموا معارف فكرية وثقافة (حياتية) عبر عقود ، غالباً ما يكون التاريخ عنوانهم البارز، وخلفيتهم الأثيرة إلى قلوبهم وعقولهم في الحديث عنه، أو الانطلاق منه، حتى وهم يتحدثون عن آخر تطورات تقنيات "المعرفة الرقمية"، والاتصالية والعلمية.

 ذلك أن علاقتهم بالتاريخ سميكة وكثيفة للحد الذي تمنع رؤيتهم –بعضهم- للحاضر كما هو.

 فالإقامة الذهنية في الماضي من أخطر أشكال " الإغتراب " السياسي  عن الواقع/ الحاضر، يمنع التواصل الإبداعي بالواقع في تفاصيله الصغيرة والكبيرة، حيث الذي كان ( الماضي)،  يهجم ويحتل قسرا مساحات ما يجب أن يكون، فيمنع حضوره الخلاق، بما يجعل صورة الحاضر والمستقبل باهتة في رؤاهم، ولذلك لا نرى- عند بعضهم  - حالة التفاؤل والأمل قوية في بنية تفكيرهم. فنقطة البداية في الكلام/ الحديث عند ذلك البعض يدور حول ما كان ، وليس ما نحن فيه، وما يجب أن يكون ، يظهر فيها المستقبل وكأنه ملحق وتابع بأرشيف الماضي ومفرداته القيمية المسيطرة على تفكير البعض ، وهو ما لا تجده وأنت تعايش وتحاور الأستاذ/ أنيس،وابوبكر باذيب، وغيرهما، فالحاضر ، في تعقيداته، وبكل ما يفيد مما كان (الماضي) هو بؤرة تفكير أنيس ، ونقطة انطلاقه للآتي/ المستقبل، ومن هنا روحه التفاؤلية، وكتاباته المستقبلية أبداً، حتى وهو في نهاية الثمانبنيات من العمر.

هناك مثقفون كثر في المجتمع، أو حسب قول أحد المفكرين "إن كل الناس مثقفون، ولكن ليس كلهم  يؤدون دور ووظيفة المثقفين في المجتمع"، وأنيس يحيى واحد من هؤلاء الذين يقومون ويؤدون في الواقع دور المثقف العضوي التقدمي على أكمل وجه.

إن الكتابة عن الأستاذ الجليل/ أنيس حسن يحيى، المفكر السياسي، والمثقف العضوي، وأحد أهم رواد الحداثة والتنوير والديمقراطية، لا تتسع له مثل هذه التحية التكريمية السريعة كما سبق أن أشرت. أقول ذلك حتى لا أظلم سردية ذاتية فكرية وسياسية ووطنية كبيرة بمثل هذه التحية العجولة، التي  لا أراها أكثر من تداعيات قلبية، على أنني أجدها -  فقط - مناسبة للتحفيز للدعوة للكتابة الشاملة عن مثل هذه الأسماء الكبيرة في تاريخنا السياسي والوطني المعاصر.

حين أقول أنيس يحيى، فالأمر يستدعي ذكر قائمة هامة وكبيرة من الأسماء التي بدونها ودون دراستها بصورة موضوعية وفي سياقها  الذاتي، والسياسي التاريخي، لن نفهم ما كان، وما يجري اليوم، لأن المهم وضعها في سياقها القرائي، والتحليلي النقدي التاريخي ،لأن التاريخ في انتصاراته وانكساراته، صناعة بشرية/ إنسانية في التحليل الاخير،  ودور الافراد في التاريخ، وخاصة في مثل مجتمعاتنا واضح وكبير. ومن هنا قولي أو تأكيدي من أن الكتابة عن الأستاذ/ أنيس يحيى،- ورفاقه الكبار- تتطلب عدة واستعدادات لا يستوعبها مقال صغير يدخل في نطاق التحية/ التكريم، (التداعيات الوجدانية)، وهو ما أكتبه اللحظة. ولذلك تبقى الكتابة المرجوة والمنشودة/ مشروعاً  ثقافياً بحثياً، مطروحاً للقراءة والبحث من جميع الجهات الثقافية والسياسية والبحثية المعنية، وهي قراءة واجبة من جميع المهتمين والاختصاصيين في الشأن السياسي والثقافي والاجتماعي والوطني والتاريخي.. هذا إن أردنا تقديم قراءة سياسية فكرية موضوعية تاريخية عما كان في كل التجربة السياسية والوطنية اليمنية المعاصرة ذلك أن التاريخ السياسي اليمني الحديث والمعاصر ما يزال إلى حد بعيد، بكراً لم تطله الأقلام كما يجب، وبما يستحق من القراءة والنقد، وخاصة وتحديداً التاريخ المعاصر منه.. علينا فقط أن نمتلك الإرادة الجمعية، والمؤسسية (العقل المؤسسي)، وأن نتهيأ لاستعادة قدراتنا على استعمال الكلام/ البحث، ووضعهما في مكانهما الصحيح، وذلك لن يكون إلا من خلال إعادة إنتاجنا لقراءة موضوعية تاريخية لما كان. والبداية، من قراءة دور الأسماء السياسية الملحمية/ والتراجيدية  في تاريخنا المعاصر، من عبدالله عبدالرزاق باذيب إلى أحمد محمد نعمان، ومحمد علي لقمان، وأنيس حسن يحيى، وعلى باذيب، إلى عبدالله على الحكيمي، والزبيري، حتى السلال وقحطان الشعبي( المفكر السياسي/ رئيس الدولة)، ومحمد أحمد نعمان، وأبوبكر باذيب، واللواء الشاعر/ أحمد سالم عبيد، وصولاً إلى عمر بن عبدالله الجاوي إلخ.  قراءة تضع هذه الأسماء في مكانها الذي تستحقه. حينها، سندرك أننا وضعنا أقدامنا، ورتبنا أقلامنا على رسم السطر الأول من رحلة الألف ميل لما نريد.

إن القراءة السياسية العابرة، والمتشائمة، والمتساكنة سلبياً مع الراهن السائد، تقول إننا نشهد أفولاً لشمس الحرية والمدنية، ودولة المواطنة، لشدة هجمة التيار الماضوي، وبدائية عنف ووحشية القوى السياسية الاجتماعية التقليدية المهيمنة اليوم، في صورة ممارساتها الهمجية والبدائية، وخطابها الكارثي "القروسطي"، التي تحاول أن تفرض وتعمم من

خلاله صورة تسيدها على كل المشهد السياسي والوطني اليوم.

 على أن بعض ما يصلني من رسائل وبرقيات سياسية موجزة من بعض الكبار أمثال/ أنيس، وغيره، وكذا ما يصلني من بعض الشباب، جميعها، تقول لي: إن من يحفظ التاريخ ويصون الذاكرة، ويدافع عن القيم النبيلة في حياتنا( المستقبل)، ما يزال حاضراً وكائناً بيننا، ومنتشراً في تلافيف ماقد يتراءى لنا أفولاً وغروباً لشمس الحرية والإبداع.. هو كائن مقاوم ، ينخر ويحفر بصمت في قلب ضجيج البراميل الفارغة، ليظهر خواءها، قائلاً لنا: لا تخشوا من ضجيج البراميل، فهي ممتلئة بالخواء واللا معنى، ولا ، ولن يسمعها التاريخ الٱتي، ومن أن الآتي أجمل. علينا فقط أن نتكئ على ذلك التاريخ متَّزرين  بالأمل وبالعمل، لمواصلة رحلة الكبار، والباقي كله تفاصيل.

وفي قلب كل هذه التحولات السياسية والعسكرية الانقلابية العاصفة، المستمرة من بداية حرب 1994م، حتى عنف ووحشية ما يجري اليوم، وما أحدثته من انكسارات وهزائم سياسية واجتماعية وثقافية، ومن تدمير في بنية الاقتصاد والدولة، وبالنتيجة من آثار سلبية في نفسيات قطاعات من ناس المجتمع، بقي معها أنيس حسن يحيى، هو هو، كما كان من بداية الرحلة، لم ينكسر في رؤيته للانسان وللحياة، وفي موقفه من الفكر التقدمي الإنساني، ولا في موقفه وسلوكه تجاه القضايا الخاصة والعامة/ الصغيرة والكبيرة، لا يقبل بفكرة تهميش الآخر على كافة الأصعدة والمستويات، سواء من منظور اجتماعي/ ثقافي تاريخي، أو في موقفه السياسي العام تجاه ما يجب أن يكون عليه الوطن . .جاءت حرب 1994م الدامية والجارحة (اللاوطنية)، لتؤكد أنه في كل مواقفه السياسية والحياتية بقي هوهو، لم يحتم بالدين السياسي في سلوكه الاجتماعي الخاص والعام، لأنه لم يقبل خيانة الفكرة/ المبدأ، والقضية التي آمن بها، واعتقدها من بداية الرحلة، بل إن الفكرة والقضية كبرتا معه في سياق سيرورة كفاحية سياسية مدنية.. هكذا هو أنيس في الحياة وفي الكتابة، سلوك سياسي/ قيمي وحياتي مستقيم.

شخصية فكرية وسياسية وحياتية واضحة، لاتطيق الإقامة في المنطقة/ المناطق الرمادية، ولايجيد استخدام اللغة المزدوجة والخشبية في ممارسة السياسة، بل وفي الحياة العامة، يذهب مباشرة للفكرة/ السؤال، وإلى حيث تكون مصلحة الوطن والناس، فيقول، ما يلزم من القول وينصرف. . هذا هو أنيس حسن يحي، العدني/ اليمني، المدني الديمقراطي.

  ــــــــــــ

هامش:

عن أدوارد سعيد (صورة المثقف)، ص21.

 

(٣)

3- أنيس .. الإرادة والكتابة والسياسة:

  أنيس حسن يحيى لم يكن من الأسماء العابرة في التاريخ اليمني، فهو بحق اسم حفر حروف اسمه/ هويته الشخصية، والوطنية، على جدارية الوطن، بالممارسة الفاعلة وبالريشة/ اليراع في الأعماق ليجهز مع رفاقه قبراً لصولجان الاستعمار والاستبداد.

  أنيس حسن يحيى قامة تنحني أمام الورد، والأطفال، ولا تركع أمام العاصفة، حتى أن الدهر وتعب سنينه لم يأت على كمال استقامته، بعد هذا العمر الجميل والمديد، سوى باستقامة متحدية، استقامة في الفكرة والموقف، استقامة تعانق السماء.. معانيه، تزيد بقوة إرادته وتفاؤله .. هكذا هو أنيس حسن يحيى، ابن عدن، ابن المدن اليمنية كافة.

  قائد مؤسس ورائد حداثي تنويري من الزمن الجميل، فارس يجدد نفسه مع كل يوم بالقراءة والكتابة وبالوفاء للأصدقاء،  وتحيته النبيلة والفائقة المعنى لرفيق عمره الأستاذ/ أبوبكر باذيب تقول ذلك. ففي تحيته العميقة الحاملة لمعنى  الوفاء، خلاصة للموقف الرفاقي/ والإنساني، تحية على قصرها قالت كل شيء، إنها صفوة الكلام في الآلفة والمحبة وصدق القول.

  أنيس حسن يحيى هو بحق روح آتية من المستقبل.

التقدم في العمر مع أنيس حسن يحيى، يعني مسؤولية مضاعفة، وليس راحة عن العمل، بل استمرار في تسجيل وتدوين مواقف سياسية ضد الاستبداد والفساد، تسجيل مواقف لاستنهاض الحياة السياسية والحزبية والوطنية، باتجاه تدعيم خط المدنية والديمقراطية والعمل المؤسسي، حلمه العظيم في بناء دولة مواطنة ومؤسسات.

المدنية في عقله ثقافة حرية اساسها وجود المؤسسات وسلطة القانون، لأنه بدون مؤسسات الدولة يصعب تخليق بنية ثقافة مدنية.

   فالمدنية في عقله باختصار مؤسسات إدارية قانونية حقوقية دستورية. هو حقاً مثقف عضوي ومدني بامتياز، مثقف يمتلك أدوات ووسائل البحث الفكري والبحث الثقافي والبحث الإقتصادي والبحث العلمي، فضلاً عن الفعل السياسي ، فهو يمتلك لغة عربية سليمة رشيقة، مسنودة برؤى فلسفية / فكرية عميقة.

  يمكنكم العودة إلى كتاباته الفكرية والثقافية، وفي الاقتصاد السياسي، وهي جميعاً منشورة

ضمن حلقات متسلسلة في صحيفة "14 أكتوبر" في ثمانينيات القرن الماضي، وإلى كتاباته المنشورة في صحيفة "الثوري" – قبل ذلك بزمن طويل- فضلاً عن كتابه المتميز في الفكر الاقتصادي التاريخي.

  أنيس حسن يحيى اسمه وحضوره يرتبط بالفكرة، بالثقافة، وبالرؤى الحالمة، حين يذكر اسمه يتبادر إلى الذهن صورة المثقف المحارب المثقف الغراميشي، المثقف النقدي، كما قدمها إدوارد سعيد في كتابه "صورة المثقف"؛ هو بحق نموذج حي للمثقف العضوي، المثقف الفارس دون منازع.

  في حديثه العفوي والتلقائي معك ترى معنى وصورة المثقف، وحين يكتب تقرأ المثقف في جدل علاقته الحية بالواقع وبالناس .. حين أهداني، منذ قرابة عقدين من الزمن، كتابه النظري في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، وجدته كتاباً معرفياً من العيار الثقيل، إذ وجدته فوق طاقتي المعرفية المحدودة في القراءة الاقتصادية، كتاب تحتاج قراءته إلى عدة معرفية اختصاصية. ولكن مع الأسف وعلى  أهميته المعرفية في مجاله الخاص، فإنه لم يثر اهتمام المختصين، حيث طغى الغبار السياسي الصاخب على كل شيء، وابتلعت أخبار الحرب الوحشية، 1994م على الجنوب،  وعلى كل اليمن، كل الكلام .. تحول الكتاب، مثل العشرات من الكتب، إلى حزمة ورقية في رفوف المكتبات الخاصة.. وهكذا ترانا صورة تؤكد كيف انهزم العقل وتراجع الفكر، وانتصرت الحرب، في صورة انتصار القبيلة، والعصبية، على القانون والدولة.

  للثقافة التقدمية وللفكر الثوري عنوان، والاستاذ/ أنيس حسن يحيى أحد أهم عناوين تلكم التقدمية والثورية. وإذا كانت الثورة اليمنية تاريخاً سياسياً ثقافياً اجتماعياً يصنعها البشر/ الثوار،  فأنيس يحيى في قائمة صناع ذلك المجد السياسي والوطني لليمن في التاريخ المعاصر، ولا تستطيع أن تقرأ سفر الثورة اليمنية في الفكر والممارسة دون أن يكون عبدالله باذيب وأنيس حسن يحيى، وعلي باذيب، وعلي عبدالمغني، وعبدالله السلال ، ومحمد مطهر زيد، وقحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف الشعبي، وسالم ربيع علي (سالمين)، وعبدالفتاح اسماعيل، وابراهيم الحمدي، وعلي عنتر، وعبدالغني علي، ويوسف الشحاري، ومحمد علي الشهاري.. إلخ في طليعة هذه الاسماء .. أسماء حفرت مجد اسمائها في صفحة التاريخ  اليمني المعاصر.

  أنيس حسن يحيى مثقف كبير، أخذته السياسة إلى مدارها المعقد والصعب، فعمل جهده لتلطيف وتهذيب صورة العنف في السياسة وفي واقع الممارسة. هذا ما تقوله سرديته السياسية التاريخية طيلة أكثر من ستة عقود، وهو خارج السلطة قبل الاستقلال وبعد وجوده في قمة السلطة بعد الاستقلال.

وفي زحمة طغيان الفعل السياسي على طريق بناء الدولة الاستقلالية الجديدة، وبداية دخول البلاد مرحلة الصراعات العبثية على وحول السلطة، تراجع، نسبياً الهم الكتابي الفكري والثقافي لصالح الممارسة السياسية. ومع كل ذلك بقي القلم، والكتابة حضنه الدافئ، والحصن المنيع في مواجهة عبث وعنف السياسة وتوتراتها واضطرابها.

  إذا أجريت مفاضلة: أين هو موقع / أنيس حسن يحيى، بين المثقف، والسياسي، لكانت الغلبة للمثقف فيه، مع أنه قائد حزبي وسياسي تاريخي، ومن رواد الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة. على أن الطبيعة الذاتية الثقافية والمدنية غالبة عليه، تفكيراً، وسلوكاً، وهو في ذلك يمثل إحدى الحالات الاستثنائية، في علاقة الثقافي بالسياسي.

  كان وظل أنيس صادقاً مع نفسه في كل الأحوال: في الصح، كان يقول الصدق، وفي الخطأ كان أكثر صدقاً مع ما يعتقد أنه الصح. لم يخن ذاته يوماً ليكسب العالم من حوله، كما يقول السيد المسيح، كان وبقي ظاهره كباطنه، ولذلك هو متصالح مع نفسه؛ لم يجد في نفسه يوماً الحاجة لممارسة "التقية"، فصدقه المبين ووضوحه في القول أعفاه من الاحتماء بثقافة "التقية". هذا هو أنيس الإنسان والموقف.

  أنيس حسن يحيى، شخصية ملحمية/ واقعية ، بلّورية نقية صادقة، في الصواب، وفي الخطأ، وهذه واحدة من مشاكله مع من حوله. وإذا ما اختلفت معه، تراه يعلن بوضوح اختلافه معك بمنتهى الصدق، ولكنه يبقي على كل خيوط الوصل والاتصال معك/ مع الجميع، لأنه في أعماقه يعترف بالمختلف، ويقر بحقه في المغايرة، وعند هذا الحد ينتهي الكلام، ويتوقف الاختلاف.

  هو ابن المدينة عدن ، ولذلك هو مثلها واضح، هو في المبتدأ والخبر صورة حية لعدن المدينة والثقافة والإنسان، عدن الحرية والمقاومة المدنية، والعسكرية حين يستدعي الظرف ذلك .. عدن المدينة الصاهرة في عجينها المدني الداخلي كل الأجناس والألوان والثقافات والأديان لتنتج من كل ذلك صورة البريق العدني الجميل المختلف والمؤتلف، البريق  والألق اللذين ترى فيهما صورة كل اليمن.

  إن عدن بالنسبة للأستاذ الجليل/ أنيس، ليست هوية مكانية، ولا هي هوية نسب بالولادة، هي "هوية ثقافية" إضافة إلى كونها معنى سياسياً واجتماعياً، ووطنياً جامعاً لكل الجغرافية اليمنية. ومن هنا معنى وقيمة عدن، في عقول المثقفين التقدميين اليمنيين كافة، وعلى رأسهم أنيس حسن يحيى .. إن مشكلة عدن المدينة التاريخية، أنها "قابلة لكل ملة ..." كما قالها شاعر الفلسفة والمحبة والاختلاف والسلام، أبو العلا المعري .. ومن هنا سقوط كل ألوان العصبية البدائية أمام عمق محبتها للحياة وللإنسان، وفي الأساتذة: عبدالله باذيب، وأنيس حسن يحيى، وعلي باذيب، ولطفي جعفر أمان، ومحمد سعيد مسواط، ومحمد سالم باسندوه، وأدريس حنبلة، وأحمد سعيد باخبيرة، وزكي بركات، وسالم بكير، وفريد بركات، وعبدالرحمن فخري، وأبوبكر باذيب، ومحمد سعيد جرادة، وعبدالله هادي سبيت، وعبدالله فاضل فارع،  وأحمد القاضي...إلخ، في كل هذه الأسماء، ترى وتقرأ صورة من ذلك البريق والجمال الروحي الأنيق والأخاذ.

  بيد أنه ينبغي القول إنه على  الرغم من الحروب العبثية العديدة، والظالمة التي شنت وما تزال تشن على المدن اليمنية بهدف ترييفها، وقبيلتها، وملشنتها: صنعاء، عدن، تعز، الحديدة ،إب، وحتى حضرموت،...إلخ، وكذا الحرب على "الثقافة المدينية"، و"الثقافة الوطنية اليمنية"، من خلال جميع الأدوات الناعمة والحربية والأيديولوجية، المذهبية/ الدينية، كل ذلك أوجد وضعاً ومناخاً انهزامياً في عقول ونفوس البعض: سقط من سقط في وهدة العفن السياسي السائد، وكبا أو تعثر هنا أو هناك من تعثر،  وحاول بعضهم السير وإن بخطى وئيدة منكسرة، وهناك من انسحب إلى داخل ذاته يشهد من بعيد ما يجري، فضلاً عمن قرر التكيف والتواؤم مع سلطات الأمر الواقع هنا أو هناك (في الشمال أو في الجنوب). ومع ذلك، هناك من اختار سبيل المقاومة بالصمت الإيجابي، ومن قرر المقاومة بكل ما تبقى في روحه من طاقة على القول والفعل.. وأنيس حسن يحيى واحد من هذه الأسماء التي تجاوزت واقع الانكسار في فعل الإستقامة الفكرية والسياسية والاخلاقية، التي كانها، وسار بها على ذات الطريق الذي اختاره منذ أول الرحلة، وإلى سدرة منتهى الرؤية.

  هناك ثلاثية كريهة ممقوتة ومنبوذة في عقل الاستاذ / أنيس حسن يحي، وهي التالية: العصبية، والعنف، والحرب؛ ثلاثية كل واحدة منها تقود للأخرى وتكملها، لتصنع روح الهزيمة في الإنسان، فالعصبية تقود سياسياً وعملياً للعنف (التغلب)، الذي يفتح المجتمع على الحروب الاعتباطية والعبثية، الحروب التي تجعل جميع الاطراف يتبارون لإظهار أسوأ وابشع ما فيهم من مكبوتات بدائية ووحشية.. لن ينتصر فيها مؤقتاً إلا من يختزن ألأكثر بؤساً من تلكم المكبوتات المريضة، أو الأكثر عدة من السلاح..  السلاح المدمر للحياة وللإنسان. . حروب الخاسر الاعظم فيها هو الشعب.

  لقد أضعفت وانهكت كارثة 13يناير، 1986م البغيضة المجتمع، وبالنتيجة شلت قدرة الدولة على الفعل السياسي المدني، وعلى أن تكون دولة لجميع مواطنيها، بقدر ما عززت وكرست مواقع العصبيات القبلية والعشائرية والمناطقية والجهوية  في جنوب اليمن (دولة الشطر الجنوبي من البلاد)، وبعض ملامح ذلك ما نراه اليوم في صورة حلول الميليشيات، والعصبيات القبلية والمناطقية والقروية، بديلاً عن الدولة.

  ولا أرى في جريمة حرب، 1994م، "اللاوطنية"، سوى استمراراً  كارثياً لتكريس عصبية "دويلة المركز" الاستبدادي:

 عصبية المذهب والطائفية السياسية والقبلية الشمالية، فضلاً عما يجري اليوم من احترابات على أسس متخلفة، " قروسطية"،وهذه الحروب العصبوية/ العبثية، المذهبية/ الدينية، هي الحلقة الاضعف في السلسلة التي اخترقنا منها الأجنبي: الاقليمي والدولي،  وحل بديلاً عنا في حكم بلادنا، وهي واحدة من أقسى وأكثر المرارات فداحة على الروح والعقل، وهي التي نتجرع ويلاتها الجميع اليوم، والتي كنت أراها في عيون وفي ملامح أبو بكر باذيب، وهو يتحدث. وهو ذاته ما أطالعه في محيا وفي روح الاستاذ / أنيس، دون أن ينبس ببنت شفه.. روحه المتعبة والجريحة والمقاومة معاً لكل صنوف الاستبداد والفساد والتخلف.

  تحية لأنيس حسن يحيى في عيد ميلاده المتجدد أبداً في ذاكرة الوطن والرفاق والأصدقاء.

 وتحية طيبة وعزيزة من القلب، لأم (غادة) و(باسل)، المرأة البطلة المكافحة في كل الظروف: من توزيع المنشورات في المرحلة الاستعمارية، حتى الدفاع عن المدنية والمواطنة للجميع .. تحية لأم الخير،  رفيقة الاستاذ، وشريكته في السياسة وفي الحياة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أنيس حسن يحيى في سطور:

- من مواليد 1934م / عدن.

- خريج جامعة القاهرة/ مصر العربية.

- امين السر القطري "لمنظمة حزب البعث"، جنوب البلاد.

- أمين عام "حزب الطليعة الشعبية"،/ عدن.

- من مؤسسي "الحزب الاشتراكي اليمني".

- عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني.

- متزوج من السيدة أم الخير/ استاذة ومناضلة سياسية قديرة، هي شريكته في الكفاح السياسي،  ورفيقة عمره في الحياة.

- أب لابنة  اسمها (غادة)/ دكتورة/ طبية، وولد اسمه (باسل) (مهندس)، كما اتصور .

قراءة 1208 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة