الوعي ودوره في تحديد الشكل النهائي للصراع

الجمعة, 20 تشرين2/نوفمبر 2015 18:02 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

أريد أن أتحدث هنا عن أحد تلك المسائل المبهمة والتي لا يكفي التجريد وحده لفهمها. ان الصراع الحالي في اليمن ليس بمعزل عن الصراع الدائر في المنطقة، وبالمجمل فإن ما تشهده منطقة الشرق الأوسط وقد القى بظله إلى قلب العالم (باريس)، يعني أنه ليس بمعزل عن الصراع العالمي. يعيش النظام العالمي أزمته الدائمة، والتي ما ان تنجح المحاولات الدؤوبة على احتواءها، حتى تطل بعنقها مجددا، كأزمة متجذرة وعصية على الحل. حتى وقت قريب كان وجود معسكران يتنازعان حول الشكل النهائي للنظام العالمي كان ذلك يشكل محور الصراع، وعندما حسم الصراع لصالح المعسكر الرأسمالي، فإن هذا لم يعني أن العالم قد وجد أخيرا الحل الجذري للمشكلة.

جميع الحروب في النهاية تخاض لأجل النهب، وتتجدد لأجل مزيد من النهب في طريق المحاولة الجديدة للإفلات من المشكلة. تحتاج الرأسماليات العالمية لكي تصمد، تحتاج إلى حقول جديدة لتوظيف أموالها، والحصول على المواد الأولية بأقل كلفة، وأيضا أسواق تصريف مميزة ومحتكرة. ان زمن الاحتلال المباشر الذي ساد لبعض الوقت لم يعد هو الشكل المثالي لتحقيق كل تلك الاهداف، كان احتلال العراق هو التجربة الأخيرة من هذا النوع، ولم يعني هذا ان الصراع قد تغير، وأصبح يدور من أجل مكافحة الارهاب أو من أجل مثال سياسي (مع الديمقراطية أو ضدها) أنه في جوهره صراع من أجل نهب الشعوب.

وفر النفط في المنطقة العربية بيئة مناسبة لتكديس الأموال وما يتبع ذلك من نشوء اسواق ضخمة، غير أن هذا ليس كل شيء، فوجود المزيد من النفط لا يزال يغري العالم، وتلك الأموال والميزانيات الباهظة لابد من وجود طريقة أجدى للتسلل إليها وسرقتها بدلا من ان تعود بالنفع على شعوب المنطقة. فيما كانت الدول الكبرى قد شرعت في رسم سفينتها التي ستحملها إلى ميدان الصراع القادم، والذي لابد أن يكون الارهاب قد شكل العنصر الحاسم فيه، اثناء ذلك كانت الشعوب العربية قد انتفضت في ثورات عارمة ضد انظمة سلبت هذه الشعوب حقها في الحياة الكريمة. اذن باسم الثورات وباسم الارهاب سيذهب العالم الى الشرق الأوسط، وسيكون لهذه الشعوب دورها في انجاح الأمر لطالما لعبت دورا اساسيا عندما كان الصراع بالأمس يدور حول الشيوعية. كانت الأنظمة العربية العسكرية قد راكمت طوال سنوات حكمها الكثير من الثروات، هذه الثروات ليست بمنأى عن الصراع، وشكلت الى جانب ذلك علاقات تجارية واسعة وأصبحت وكيلة للرأسمال العالمي، وكان العالم حائرا بين استهداف ثروات الشعوب وبين استهداف ثروات الأنظمة. بمن يبدأ أولا؟ مثل الارهاب عنوان جيد لاستهداف ثروات الشعوب، بينما شكلت ثورات الربيع العربي العنوان الأخر الذي بموجبه سيتم استهداف ثروات الأنظمة وارهاق الشعوب لكي لا تظل قادرة على ادراك حقيقة ما يدور.

حتى وقت قريب لم نكن نتوقع ان يقبل العالم ان يقصف جيش دولة شعب دولة أخرى، اعتقدنا بأن هذا يتعلق بزمن مضى. هو حقا ليس بنفس الطريقة القديمة لكنه من أجل نفس الهدف. اذا كانت الشعوب العربية بثوراتها المشروعة قد وفرت فرصة ثمينة لتصبح ثرواتها محل صراع القوى العالمية، فيمكننا ان نراهن على الوعي لرد هذه القوى خائبة إلا من تلك الثروات التي كدستها الانظمة والتي بدأت فعلا في سلبها.

تتمحور الحرب الحالية حول ثروات الأنظمة، ورأينا كيف أن السعودية اشترت الاسلحة بتلك الكميات الهائلة والمبالغ الباهظة، غير أن هذا ليس سوى مقدمة لاستنزافها والتمكن من الثروات الأصل: السوق وتلك التي لا تزال في باطن الأرض. ما تنفقه السعودية أو بشار الأسد أو حتى السيسي وقطر، كل ذلك لا يخرج عن كونه ثروات الشعوب، غير ان سبيل استرجاعها سيبقى شاقا ومستعصيا على الدوام، أما السوق فسيبقى بوسعنا طوال الوقت  استرداده، وتلك الثروات في باطن الارض هي ملك للأجيال القادمة وعلينا حمايتها. كيف يحدد وعي هذه المسائل الشكل النهائي للصراع؟ عندما ثارت الشعوب العربية في منتصف القرن الماضي ضد الاستعمار، فهي كانت تعي اهداف الاستعمار، واستطاعت ان تفلت من قبضته وان تجعله يخسر قدر كبير من اهدافه. تلك الاهداف يجري اعادة ترميم السبل لتحقيقها مجددا في انصع الصور. عادة ما يحمل الشكل الذي يفرض نفسه في النهاية، الجانب الأكبر من تحقيق الأهداف، وعندما فقد الاستعمار التواجد المباشر هو بالضرورة كان قد خسر الكثير.

تبرز مشكلة أننا لا نعي الاستعمار الذي يأخذ طابع صراعات محلية ومحاربة ارهاب، وهو يبرز جليا أمامنا. ثم هناك مسألة أخرى تتعلق بالاستغفال. مثلا كانت القوى الكبرى تستخدم الاسلاميين المتطرفين في حربها ضد الشيوعية، بينما كانوا يعتقدون انها حربهم في المقام الأول. للإسلامين الحق في اعتبار الحرب حربهم (كانوا منسجمين مع ذاتهم) لكن عندما تكشفت لهم المسائل في النهاية اندفعوا في نفس الطريق الخطاء ليوفروا لتلك القوى الفرصة مجددا لمزيد من استغفالها. نحن اليوم نخوض صراعنا في مناهضة الاستبداد المحلي، في الاثناء تتدخل تلك القوى الكبرى.

بدون الوعي الى اين سيجرفنا تدخل تلك القوى في النهاية، فإن ما سيحدث هو أنها ستجرفنا. ومن يدري؟ لعلنا سنوفر لها الفرص كما تفعل في هذه الأثناء القوى الاسلامية المتطرفة. تحاول روسيا وهي قوى رأسمالية منافسة أن تستثمر تركة اليسار في المنطقة بوصفها القطب المواجه للإمبريالية، بنفس القدر تستثمر ايران العداء العربي لليهود وايضا الطائفية التي تعيش المنطقة مأزقها، ويشكل هذا التحالف مع دول عديدة منافس للقوى الأخرى على تركة الرجل "المشوه". القوى الغربية تحتاج ان تستثمر علاقاتها القديمة بالأنظمة العسكرية وخبرتها بالشعوب وايضا بالإرهاب الذي صنعته لأهداف محددة لكنه صمد ليحقق لها اهداف أخرى جيدة. هذا الصراع ليس بمعزل عن حياة الشعوب، بل ان الشعوب العربية أكثر من يقاسي ويلاته. أليس الأمر اذن أشبه بالاستعمار المباشر الذي كان يحتل الأرض ويسبب لسكانها المعاناة؟

 بقليل من التدقيق هو اشبه على نحو بليغ.

سأطرق أحد تلك المسائل التي يغيبها انعدام الوعي. هذه المسألة تتعلق بهندسة الأقلمة في اليمن. كانت الفيدرالية ولا تزال مطلب شعبي واستحقاق ثوري للشعب اليمني من أجل تحقيق المساوة في السلطة والثروة. في مؤتمر الحوار، كانت القوى العالمية الكبرى صاحبة المصلحة حاضرة، ليس ضدا من رغبة الشعب اليمني، ولكن معها ومن أجل أن تحقق هي ايضا مصالحها. (السفير الفرنسي ودوره من أجل شركة توتال مثالا) جرى التقسيم اذن الى ستة أقاليم وتعاملت مختلف القوى المحلية باستثناء الحزب الاشتراكي مع الأمر باستخفاف شديد.

تنبه الاشتراكي وحده الى خطورة هذا التقسيم، إلى جانب انه يحقق ظاهريا رغبة الشعب ومصالحه فهو باطنيا يلهو بتلك الرغبة ويمنع تلك المصالح من التحقق. باختصار كان التقسيم يفصل مناطق الثروة عن مناطق الكثافة السكانية لكي تنفرد تلك القوى الكبرى بالجانب الأهم من المسألة. لن يحصل الشعب اليمني على ثرواته اذن وهذه المرة باسم الفيدرالية بنفس القدر الذي لم يحصل عليها بسبب نظام التسلط والفساد، وسيحصل سكان تلك المناطق (مأرب، الجوف، شبوة، وحضرموت) على الفتات بنفس القدر الذي كانوا يحصلون عليه في السابق، وسيبقى الوكلاء المحليون للشركات الكبرى محتفظين بامتيازاتهم. مؤخرا يبدو أن الظروف أصبحت مؤاتيه لترسل القوى العالمية المزيد من الشره المستهدف لهذه الثروات، وفي النهاية بدون الوعي والعمل المصاحب سينطبق علينا القول: وكأنك يا بو زيد ما غزيت.

قراءة 1616 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة