القروي المتخلق من رحم الثورة

الخميس, 23 شباط/فبراير 2017 20:17 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

ضمن ملف استعادة تفاصيل الأيام الأولى للثورة وأبرز المحطات، وبحث أسئلتها، وهو الملف الذي يفتحه موقع "الاشتراكي نت" بمناسبة الذكرى السادسة لثورة فبراير، كخطوة أولى على طريق تدوين الحدث الأبرز في تاريخ اليمن المعاصر من زواياه المختلفة، ننشر هنا تباعا الكتابات المتصلة بموضوع الثورة تحت عنوان "أسئلة الثورة وتفاصيلها".

...........

هكذا وجدت نفسي قبل ست سنوات، قرويا بسيطا، بائساً، مدثرا بهالة من التعاسة والشقاء، ميراث ثقيل لسلسة متصلة من الأجداد. قرويا ملطخا بالحقين، وتتبخر رائحه السمن من أطراف أصابعه.

قرويا يعجب بمن حوله ويبادله الحب، لديه القدرة على الحلم بحياة جميلة وسعيدة، كل الأشياء الدخيلة إلى عالمه القروي تسره وتترك لديه اثر لمعنى القروي المتخلق نحو الحياة بحضورها الفاتن الزهو.

لكن شظف العيش وبؤس الواقع يجعلانه مكرسا في الحفاظ على توازنه وشكله القروي، والدفاع عن قرويته المقدسة، وأن ما عدا ذلك خروجا عن ضوابط وقانون البيئة المحيطة به.

كنت قليل الإختلاط مع الآخرين، وشخص غير اجتماعي كما قال لي أحدهم. وما زلت كذلك، كما تأتي العزلة في صدارة الأشياء المحببة لدي.

وحدها المدرسة كانت محطة للقاء بعدد كبير من الأصدقاء، أصبح فيها شخصا اجتماعيا، نفرغ مشاعرنا، ونتبادل الكلام والضحك. كانت هذه المرحلة بالنسبة لي عبارة عن مزيج بين شيئين اثنين هما: الشقاء الذي تتسيد فيه حالة البلادة واللامبالاة والعزلة، والشيء الآخر هو التفرد بقراءة كتب المدرسة.

كانت قراءتي للكتب غير المدرسية هو المعنى الآخر للعدمية، تماماً، كما كانت الثورة  المعنى الآخر للعدمية. أودى التفرد في قراءة الكتب المدرسية والتكريس غير المثمر، كما سطعت به النتائج، إلى عجزي عن فهم طبيعة الحياة حتى على مستوى الأسرة، ونضج فهم و وعي متأخر هو الآن، ربما، في طريقه للتخلّق.

كان الفصل ربيعاً، وكان الصف الدراسي الذي أقاسي نقاهته الثاني الثانوي، ماتعاً، حين انفجر أعظم حدث في تاريخ الجفرافيا اليمنية في القرن الواحد والعشرين، الثورة، وأدلف الشباب أقدامهم إلى الشارع يسبقهم الحلم، حالمين بحياة كريمة وحاملين قضية عادلة، وشعارات ومطالب في وجه نظام عائلي ظل يدخر مصالحة على مدى ثلث قرن من مدخرات الوطن، ويطهوها على جفاف وكدح أبناءه.

من هنا، من 11فبراير2011 بدأت الحياة تتكشف لي بكل صورها وبدأت اتخلص من بلادة و عفوية القروي المستكين.

سيصبح من الإدعاء القول أني واحدا من الشباب الذين صنعوا حدث 11 فبراير العظيم، وزج بنفسه بين زحمة الجماهير وحماسها، وتظاهر وعبر الشوارع تحت حريق الشمس وبركتها، و أنا طفل أمي المدلل الذي لا يزيد حنينها عن ساعات لغيابه حتى يسكنها القلق وتحول القرية فريق باحثين و منقذين. لكن هذا لا يعني أنني كنت بمنأى عن حدث الثورة، فمن الثورة ولدت، وبدأت أتشكل و أتخلق شيئا فشيئا.

بعد أشهر، ربما شهران، من إندلاع الثورة، جرى أن أقتنى شقيقي الأكبر تلفزيون ذات شاشة ملونة، فرحت جدا لهذا الفعل السار، الآن أستطيع سماع أيوب وهو يتلو سور الوطن والوطنية على مسامع الآلاف من الشباب، وسماع الخطب والأناشيد الثورية الرنانة. أستطيع مشاهدة الشباب الثوار وهم يجوبون الشوارع ويحتشرون في الساحات، يتلون آيات الثورة ويرقصون على وقع ألحان الحرية.

كان أكثر ما يشدني و أنا أتابع الطوفان الجماهيري الشبابي وهو يغرق الساحات ويجوبها، طولا وعرضا، هي تلك الرقصات الفاتنة، التي تجعلني أندفع نحو الرقص. أصبحت حينها قروياً راقصاً يعي معنى الرقص من جهة ما. الثورة التي علمنتي معنى الرقص،عملتني أيضا، معنى أن يعيش الإنسان الحياة بحرية وعزة وكرامة، وكيف ينتزعها من جلاديه، وكم يجب عليه تقديم التضحيات في سبيل الحصول عليها. علمتني أن أولئك القرويون الغبر المتدافعون لساحات الثورة هم أيضا يبحثون عن الكرامة والحرية وعن الحياة.

أوقد ذلك الزخم الثوري شعلة الحماس لدي، وكنت أشعر أن شيئا ما بدأ يتفاعل ويتشكل.

وعن حماس، تمنيت لو كنت واحدا من أولئك الشباب الذين يتصدرون مقدمة المسيرة ويحملون شعارات تمجد الحياة والإنسان. لكن، كان كل شيء يحول دون ذلك بما فيه أنني كنت ما أزال صغيرا.

تمكنت في العام نفسه، 2011، عام إندلاع الثورة العظيمة، من زيارة "ساحة الحرية" بتعز خمس أو ست زيارات، تقريبا، كانت كلها خاطفة لا تزيد كل زيارة عن نصف يوم، لكنني تمكنت من الأختلاط بالجماهير.

القروي الذي  لا يفارق ظل أمه يسبح الآن بين آلاف الجماهير. جرى في واحدة من الزيارات أن انغمست بين حشد من الجماهير بينما كانوا متجمهرين بشكل دائري يشاهدون رقصة ثورية فاتنة، حينها قلق صديقي عليّ وعمد للذهاب صوب المنصة يخبر القائم بندائي من هناك. شعرت بالزهو و أنا أسمع اسمي يصدح على مسامع المتجمهرين وخيّل لي أني المعني بكل هذا الزخم. كما أصبح لديّ صديق يزودني بالكتابات الصادرة عن شباب الثورة، اثناء عودته الأسبوعية للقرية. أصبح الآن من غير الإدعاء ان قلت أني واحدا من شباب ثورة 11 فبراير.

كان لذلك الحماس المبذول وشبق الاختلاط بالجماهير، المذكور آنفا، كفيل للقول أنني أحد شباب الثورة. كما ان المكوث في الساحات والنزول في المظاهرات والمشاركة في النشاط الثوري، ليس شرطا لوصم أولئك العدد الضخم للشباب النائيين عن الساحات لأسباب حالت دون نزولهم إليها، أنهم ليسوا من شباب الثورة، ولأن يكون أحد ما أحد شباب ثورة فبراير العظيمة، وأحد أبطال الحدث العظيم في القرن الواحد والعشرين من تاريخ اليمن، يكفي، فقط، أن يؤمن بالثورة، وبقضية الثورة وعدالتها، وبحلم الثوار.

بالطبع أؤمن بالثورة وعدالة القضية، بغض النظر عن أخطاء و انحرافات المسار الثوري، والمآل المحزن الذي وصلت إليه الثورة، والذي كان للمجهضين من العسكريين والجنرالات والأحزاب العقيمة السبب الأعظم في فشل الثورة وتحويل الحلم إلى كابوس وعذابات. لكن الحلم لا يموت، و إن مات حاملوه سيولد من يحمله، فالطفل المولود كل ثانية والحليب الذي يجتره من ثدي أمه هو تلقين للحلم والحرية والكرامة والحياة.

 قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة

@aleshterakiNet

قراءة 1793 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة