فـي غـزة فـقـط يـخـتـلـط الـدم بـالـطـحـيـن

  • الاشتراكي نت / د. ماهر الشريف *

السبت, 09 آذار/مارس 2024 19:25
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

"راحوا إلى الشاطئ كي يتلقوا أكياس طحين، فتلقوا رصاصات المجرمين الذين قتلوا منهم 107 وأدموا مئات غيرهم؛ هذا أحد مشاهد غزة المنكوبة اليوم، والذي يبدو أن العالم الكسيح قد اعتاده".

هذا ما كتبته للوهلة الأولى على صفحة فيسبوك وأنا أشاهد ذلك المشهد المروع لآلاف الغزيين الهائمين على وجوههم على شاطئ غزة، فجر يوم الخميس في 29 شباط/فبراير الفائت، بحثاً عن لقمة عيش يطعمون بها أولادهم وهرباً من رصاصات غادرة.

"بات العثور على الغذاء اليوم في غزة نفسها - سواء من الزراعة أو صيد الأسماك - يكاد يكون مستحيلاً"، و" قد توقف تماماً وضع الطعام على المائدة"، و"تم تدمير أسس العيش اليومي للناس"؛ "إن الوفيات المأساوية التي وقعت يوم الخميس خلال حادث قافلة المساعدات سلطت الضوء على مدى حاجة سكان غزة الماسة إلى الغذاء والمياه العذبة وغيرها من الضروريات الأساسية، بعد ما يقرب من خمسة أشهر من الحرب"؛ "هذه هي المأساة الحقيقية هنا، فالغذاء والإمدادات نادرة للغاية لدرجة أننا نشهد حدوث هذه المآسي"؛ "إن الإمدادات الغذائية تم قطعها عمداً، ولم يعد سكان غزة قادرين على إعالة أنفسهم"؛ "لقد رأينا صوراً لمستشفى الشفاء حيث كان ضحايا عمليات القتل يرقدون جنباً إلى جنب في انتظار العلاج"؛ "إننا في حاجة إلى وقف عاجل لإطلاق النار"؛ هذا ما صرّح به بعض مسؤولي وكالات الإغاثة الدولية، ومنهم المتحدث باسم منظمة الصحية العالمية كريستيان ليندماير، غداة وقوع ما صار يٌعرف باسم "مذبحة الطحين" التي وصلت حصيلتها النهائية إلى 118 قتيلاً وأكثر من 760 جريحاً [1].

عن وقائع "مذبحة الطحين"

روى شهود عيان لوكالة فرانس برس أن آلاف الأشخاص هرعوا نحو شاحنات المساعدات التي وصلت إلى دوار النابلسي غرب مدينة غزة، وقال أحدهم، بعد أن رفض الكشف عن هويته: "كنا في شارع الرشيد وفجأة هاجمتنا الدبابات، وكانت هناك طرود مليئة بالمساعدات، وهرع الناس لجمعها بسبب نقص الغذاء والدقيق، ووقعت فوضى، وواصلت قوات الاحتلال إطلاق النار علينا، وكان هناك الكثير من الشهداء والضحايا"[2].

وفي تحقيق مطوّل نشرته صحيفة "لوموند" في 2 آذار/مارس الجاري، وأعدّه كلٌ من صامويل فوري، ولوي أمبير وكلوتيلد مرافكو، بعنوان: "توصيل المساعدة يتحوّل إلى حمام دم"، أشير إلى أنه قبل فجر يوم الخميس في 29 شباط/فبراير، "انتشر في مدينة غزة خبر توزيع قريب للمساعدات، وعندما اجتازت الشاحنات الأولى من أصل 38 شاحنة نقطة المراقبة الإسرائيلية في جنوب المدينة، كان ينتظرها مئات من الرجال والفتيان على الشارع الموازي للشاطئ، ثم أصبحوا آلافاً أولئك الذين توجهوا نحو الشاحنات، وأظهر فيديو صوّره أحد الهواة في الليل وبثته قناة الجزيرة حشداً من الناس ينكفئ على نفسه بينما تسمع صليات إطلاق رصاص، حيث كان هناك جنود للجيش الإسرائيلي على جانب الطريق".

ويتابع التحقيق أن وزارة الصحة المحلية التابعة لحركة "حماس" زعمت "أن هؤلاء الجنود أطلقوا النار على الحشد"، بينما "نفى الجيش الإسرائيلي قيامه بإطلاق النار على القافلة، وتحدث عن سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء التدافع، أو جراء تعرضهم للدهس على أيدي سائقي الشاحنات الذين اندفعوا للعبور بينهم"، لكنه اعترف أن بعض الجنود "أطلقوا النار على الغزيين الذين اقتربوا من مواقعهم". ثم ينقل التحقيق عن الطبيب محمد صالحة القائم بمقام مدير مشفى العودة قوله عبر الهاتف "إنه تم استقبال 176 جريحاً، لوحظت إصابات بالرصاص على جميع أنحاء أجسامهم، على اليدين والفخذين والبطن والصدر، في حين لم تُلحظ إصابات نتيجة التدافع". وذكر معدّو التحقيق "أن غزيين صرحوا في شباط/فبراير الفائت بأنهم تعرضوا لإطلاق نار بينما كانوا يتنظرون المساعدات"، وأنه في 25 من ذلك الشهر "قُتل على الطريق الساحلي نفسه عشرة من الفلسطينيين على الأقل في حادثين لإطلاق نار من جانب قناصة"، كما ذكر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة[3].

إسرائيل تذبح الفلسطينيين والإدارة الأميركية تتواطأ معها

هذا ما خلص إليه كثيرون من المحللين والمراقبين، الذين رأوا أن "مذبحة الطحين" هي ذروة خمسة أشهر من القصف والإبادة الجماعية والتجويع وتهجير السكان من قِبل إسرائيل، وقدّروا أن الإدارة الأميركية التي استمرت في تسليح إسرائيل على مدى هذه الأشهر الخمسة، وحالت دون صدور قرار عن مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار، تتحمّل مسؤولية مباشرة عن وقوع تلك المذبحة.

فبعد أن أشار المحلل أندريه دامون، في مقال نشره في 2 آذار/مارس الجاري، إلى أن الصور التي التُقطت في مكان الحادث "أظهرت أكياس الطحين ملطخة بالدم، ما دفع الكثيرين إلى تسميتها بـمذبحة الطحين"، قدّر أن هذه المذبحة كانت "متعمدة، ونفذها نظام نتنياهو الفاشي، ضمن حملة ممنهجة تهدف إلى قتل أكبر عدد ممكن من سكان غزة وتهجير الباقين من أراضيهم"، وتابع أنه "إذا كانت القوات الإسرائيلية هي التي ضغطت على الزناد، فإنها استخدمت الرصاص وقذائف الدبابات التي دفعت ثمنها وقدمتها لها الولايات المتحدة"، وأن "وسائل الإعلام الأميركية بمجملها قد تواطأت مع إسرائيل في تغطية هذه الفظائع"، وسارعت "إلى ترويج القصة الإسرائيلية السخيفة التي تقول إن سائقي شاحنات المساعدات الفلسطينيين تسببوا في المذبحة من خلال قيادة شاحناتهم وسط الحشود، وذلك على الرغم من الصور العديدة التي أظهرت القوات الإسرائيلية وهي تطلق النار على مدنيين عزل". أما حديث الرئيس جو بايدن عن "الحادث المأساوي والمثير للقلق"، ودعوته إلى "زيادة تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة"، فما هما سوى مناورة هدفها "التعتيم على السياسة الأميركية الفعلية المتمثلة في الدعم غير المشروط لنظام نتنياهو، مهما فعل"[4].

ولم يخدع تعهد الرئيس الأميركي، يوم الجمعة في 1 آذار/مارس، بتنظيم عمليات إسقاط المساعدات جواً في شمال غزة، أحداً من المراقبين والمحللين، الذين أشاروا إلى "الطبيعة الرمزية إلى حد كبير لهذه اللفتة"، ذلك إن طائرة النقل "لا يمكنها إسقاط سوى جزء صغير من المساعدات التي يمكن نقلها بواسطة شاحنة واحدة". وبعد أن أسقطت ثلاث طائرات عسكرية أميركية 66 طرداً، تحتوي على نحو 38 ألف وجبة غذائية، في عملية مشتركة مع سلاح الجو الأردني، حذرت لجنة الإنقاذ الدولية (IRC)، وهي منظمة غير حكومية، من أن "الإسقاط الجوي لا يمكن، ولا يجب أن يحل محل وصول المساعدات الإنسانية". وذكرت صحيفة "لوموند" الباريسية، في هذا الصدد، أن إسقاط المساعدات عبر الجو، بعد الحصول على موافقة الجيش الإسرائيلي، ما هو سوى "رد باهت على الحصار الإسرائيلي"، وأنه "يخدم، بصورة جوهرية، التخفيف عن الضمائر المذنبة للمسؤولين الأميركيين الرفيعي المستوى، الذين ساهمت خياراتهم السياسية في الفظائع الجارية وفي بروز خطر المجاعة في غزة"، كما كتب على موقع إكس (تويتر) سكوت بول الناشط في منظمة أوكسفام الإنسانية [5].

الفوضى التي ينشرها جيش الاحتلال من أسباب وقوع المذبحة

ذكر تحقيق "لوموند" المشار إليه أعلاه أن الجيش الإسرائيلي رفض يوم الخميس الكشف عن هويات المتعاقدين الذين نسق معهم انطلاق قافلة المساعدات وتوزيع محتوياتها، وذلك بعد أن صار رجال الشرطة في غزة الذين استهدفهم جيش الاحتلال بالقتل، "يرفضون مرافقة القافلات كما أعلن بحسرة فيليب لازاريني مدير الأونروا"، وتقوم "مجموعات عشائرية بأعمال منسقة ضد قوافل المساعدات بالقرب من المعبر"، الأمر الذي دفع قسماً من أعضاء الجهاز الأمني الإسرائيلي إلى مطالبة الحكومة "بتسهيل عودة السلطة المدنية الفلسطينية على الأقل في مدينة غزة، حيث أنهى الجيش عملياته المكثفة، لكن الحكومة ترفض ذلك وتصر على البحث عن خيار بديل لحماس، ولا تريد أي حوار سياسي مع السلطة الفلسطينية ولا مع حركة فتح".

وفي هذا الصدد، أوضح جان فرانسوا كورتي، نائب رئيس منظمة أطباء العالم، أن الحكومة الإسرائيلية تتصرّف إزاء مسألة توزيع المساعدات الإنسانية كما يتصرّف "الهواة"، في حين أن هذه المهمة "تتطلب خبرة للاستجابة للتحدي اللوجستي والتحدي العملي في سياق مجاعة تؤثر على ما بين 300 ألف إلى 500 ألف نسمة"، مشدّداً على أنه "عندما تصل المساعدات بطريقة غير متناسبة، فإن ذلك سيؤدي إلى تحرك السكان الجياع أكانوا في غزة أو في أي مكان آخر"، وعلى أنه "ليس من قبيل الصدفة أن يطالب العاملون في المجال الإنساني بوقف إطلاق النار، وذلك حتى يمكن توزيع هذه المساعدات بصورة متناسبة ومن دون ارتجال"[6].

وقد خصصت صحيفة "لوموند" افتتاحية عددها الصادر في 2 آذار/مارس الجاري للحديث عن "الإستراتيجية الإسرائيلية غير المقبولة للفوضى في غزة"، بدأتها بالإشارة إلى أن المأساة التي وقعت أثناء توزيع المساعدات يوم 29 فبراير/شباط ، لا ينبغي النظر إليها بصفتها "حادثة معزولة بل هي، على العكس من ذلك، تكشف ما تنوي الدولة العبرية أن تفعله بغزة بعد القتال الذي لم تضع له نهاية بعد، رغم غياب نتائج فيما يتعلق بهدفه المزدوج: تحرير الرهائن الإسرائيليين المختطفين في 7 أكتوبر، والقضاء التام على حماس".

وتابعت الافتتاحية أنه "بعد السحق المنهجي لهذا الشريط الضيق من الأرض"، الذي حوّله الجيش الإسرائيلي "إلى حقل من الخراب وذلك بثمن خسائر بشرية فادحة"، بات المشروع الإسرائيلي يرمي الآن إلى "تدمير أدنى شكل من أشكال الإدارة، ولا يقتصر الأمر على حماس فقط، بل يشمل كذلك محاولة قتل الأونروا، وكالة الأمم المتحدة المسؤولة عن اللاجئين الفلسطينيين، التي يعتبر عملها حاسماً في غزة". فالحكومة الإسرائيلية، التي يرفض رئيسها بنيامين نتنياهو "بصورة عنيدة السماح بعودة السلطة الفلسطينية المجددة وفقاً لرغبات رئيس الولايات المتحدة، جو بايدن، لتحل محل حماس"، تريد "أن تسود الفوضى" في قطاع غزة، ولهذا "لم يتم تنظيم القافلة التي تم اقتحامها في 29 فبراير/شباط بالتنسيق مع وكالات الأمم المتحدة التي لا تزال موجودة في الموقع"[7].

لا يحدث هذا سوى في غزة

عندما تعترف منظمة اليونيسف بأن الأطفال يموتون بسبب سوء التغذية أو الجفاف في غزة، وتحذر، يوم الأحد في 3 آذار/مارس الجاري، من "الكارثة الإنسانية" داخل القطاع الفلسطيني، وعندما يقف الأطباء في ما تبقى من مستشفيات عاملة عاجزين في مواجهة مجاعة الأطفال، الذين توفي أربعة منهم خلال أسبوع في وحدة طب الأطفال في مستشفى كمال عدوان؛ في أوضاع كهذه، لم يكن غريباً أن ينتظر آباء هؤلاء الأطفال، الجوعى هم كذلك، لساعات طويلة فجر يوم 29 شباط/فبراير وصول شاحنات المساعدات، وأن يندفعوا نحوها حين وصولها كي يحصلوا على كيس طحين، وهم يعرفون أن من قام بتجويعهم، وتجويع أطفالهم، جراء الحصار الخانق الذي فرضه عليهم، يقف لهم بالمرصاد، مسلحاً بأحدث الأسلحة، وقد يقوم باصطيادهم وهم يندفعون نحو أكياس الطحين!!

بالنسبة لجان بول شانيولو، الأستاذ الفخري بالجامعات الفرنسية ورئيس معهد أبحاث ودراسات الشرق الأوسط في البحر الأبيض المتوسط، تمثّل هذه المأساة "لحظة تاريخية مهمة للغاية"، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، ذلك إنها "تذكّر المجتمع الدولي بحالة اليأس الإنساني الذي يشعر به الفلسطينيون، وحقيقة أن الإسرائيليين لا يترددون في إطلاق النار في جميع الظروف"، مشبهاً الأوضاع السائدة في القطاع المنكوب "بأوضاع القرون الوسطى، وذلك في تناقض تام مع القانون الدولي الإنساني؛ فمنع سكان مدنيين من أن يأكلوا، مثل إطلاق النار عليهم، هو جريمة حرب"، كما يقول. ويضيف: "كان الإسرائيليون واضحين، إذ إن أهدافهم تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد القضاء على حماس سياسياً وعسكرياً؛ إنهم يريدون تدمير قطاع غزة، وهو ما تم بالفعل إلى حد كبير اليوم؛ وفي رسالة إلى الجنود، تحدث بنيامين نتنياهو أيضاً عن الحاجة إلى محو ذاكرة غزة، وهي طريقة لاستحضار تدمير التراث الثقافي فيها؛ وفي نهاية المطاف، يمكننا أن نتصوّر أن إسرائيل ترغب في أن يغادر سكان غزة المنطقة، لكن المصريين يقومون ببناء جدار بالقرب من حدودهم مع غزة، وذلك على وجه التحديد لردع الفلسطينيين الفارين من القصف"[8].

6 آذار 2024

ـــــــــــ

* باحث ومؤرخ - مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت.

 

قراءة 210 مرات

من أحدث

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة