لابد من دفع دماء قلوبنا

الإثنين, 03 تشرين1/أكتوير 2016 18:42 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

أكتب لكم هذا المقال على جهازي المحمول الذي توقف عن العمل لقرابة سنة، بسبب أنني لم أجد التيار الكهربائي. لن أخبركم كيف أصبحت قادرا على شحنه الآن، لأن هذا لا يتعلق بي وحدي. حتى وقد تجاوزت هذه المشكلة المؤرقة بعد عام كامل، فأنا لا أخفيكم أنني أكتب عدد من الأسطر ثم أنظر في اتجاه مؤشر البطارية خوفا من أنها قد لا تسعفني على مواصلة الكتابة. اعتدت أيضا أن أمرر السهم على مؤشر البطارية لأعرف كم قد استهلكت من الطاقة حتى الآن. أفعل هذا مثلكم لا إراديا.

 

والآن بوسعكم أن تتخيلوا حجم الأموال التي سرقت منا، مقابل أن نحظى بهذه اللحظات البسيطة. بوسعكم تخيل عدد الألواح الشمسية التي دخلت البلد منذ بدء الحرب.

بالطبع في ظل الحرب لا يمكن للسوق أن تعمل بطريقة اعتيادية، ثم أن تلك الأطراف المسيطرة على السلطة تستطيع استثمار حاجتنا الملحة للطاقة، أبشع استغلال. نحن لا نعرف كم هو سعر منظومة الطاقة الشمسية الحقيقي، لكننا نعرف أن التجار الذين يجلبون هذه السلعة، يتقاسمون مبالغ خيالية مع أطراف السلطة الانقلابية التي أشعلت الحرب أن لم يكن هؤلاء الأطراف هم أنفسهم من يتاجرون ويحتكرون سوق الطاقة.

الكثير منا خطط على مدى أشهر لكي يتمكن من شراء منظومة طاقة شمسية، وأغلب هؤلاء اضطروا لبيع مدخراتهم العزيزة، والآن أصبح بوسعهم مشاهدة برنامج "المسامح كريم" على قناة الأم بي سي.

لو أن هناك درس وحيد علينا تعلمه من هذا، فهو يتعلق بكيفية أنه لا ينبغي لنا مسامحة من تسبب لنا بهذا الجحيم، لكن بعد معرفة ما هي الجريمة التي تمارس بحقنا، وكيف تشكلت لتظهر على هذا النحو من الفجاجة.

2

عندما تظهر الجريمة بشكل فج، فمعنى ذلك أنها قد وصلت إلى حدودها النهائية، وأنه لم يعد أمامها من خيارات التستر والظهور، سوى ذلك الخيار المتعلق بكونها جريمة في منتهى البشاعة.

هذا الشكل النهائي للجريمة، يفترض أنها كانت قد سادت لوقت طويل، وأنها قد تخفت بما يكفي، واستهلكت في سبيل ذلك جبالا من مساحيق التجميل.

يشكل تحالف الحوثي وصالح وحربهما ضد اليمنيين، هذا الظهور الفج للجريمة. فالأمر لا يتعلق بالحرب فقط وقتلها عشرات الآلاف من الأبرياء. كما لا يتعلق بالانهيار الاقتصادي وتوقف الأعمال والنزوح وكل تلك الأشياء التي عرفناها منذ بدء الحرب. بل الأمر يرتبط بجريمة ظلت سائدة طوال عقود. الجريمة لها أوجهها القديمة المتعددة، وهذه الأوجه الجديدة. ولدينا ما يسميها معن دماج بـ"عهدة علي صالح".

3

نعم قتل الآلاف من الأبرياء، وهؤلاء لا ذنب لهم سوى أنهم تواجدوا في الزمن والمكان الخطأ. وهذا ليس ذنبهم بالطبع. إذا كان هناك من ذنب حقيقي، فهو يتعلق في كون أن هؤلاء الضحايا لم يناهضوا الجريمة ويقفوا في وجهها عندما كانت لا تزال تتشكل، عندما سادت متخفية لوقت طويل. وإذا كان هذا ذنب الأموات فهو لا يزال صالحا أن يغدو درسا للأحياء.

هناك من يتملكه الغضب لأن تحالف الثورة المضادة نهب من الخزينة العامة قرابة خمسة مليار دولار. الأمر يثير الغضب فعلا، غير أن توقف العملية الاقتصادية في البلد، كلفتنا حتى الآن مبالغ خيالية، يصبح معها مسألة الخمسة مليار دولار مسألة حقيرة مقارنة بتلك الكلفة.

لقد اشترينا الكثير من احتياجاتنا من السوق السوداء، لم يكن ثمة خيار بديل لنبقى على قيد الحياة. لو أن كل يمني دفع فقط مائة ريالا زيادة في سعر سلعة ما، فإنه سيصعب علينا حساب المبلغ الذي سيذهب إلى رصيد السوق السوداء. لكننا كل يوم ندفع الآلاف كفوارق سعر على كل السلع تقريبا مقارنة بالمبلغ الذي كنا ندفعه من سابق. في الأشهر الأولى من الحرب وصل سعر الـ 20 لتر بنزين قرابة 40 ألف ريال. حسنا هذه جريمة بشعة تمارس بحق اليمنيين، لكن هناك من سيقول أنها أحد نتائج الحرب التي علينا تقبلها، مع عدم منحنا الحق في مناقشة لماذا حدثت الحرب أصلا ومن الذي أشعلها؟

ومع ذلك هذه أيضا ليست جريمة مسئولة عنها الحرب وحدها، حتى لو افترضنا أن هذه الحرب أشعلها الغزاة القادمين من كوكب آخر. فكل فوارق السوق السوداء تذهب إلى جيوب وحسابات تلك الأطراف التي تمسك بالسلطة ولديها الخبرة الكافية في التعامل مع ظروف طارئة من هذا النوع.

الرواتب أيضا لم تكن تصل إلينا كاملة كما كان يحدث في الظروف العادية، أي في ظروف الجريمة المتسترة. كثير من الخدمات لم تعد متوفرة، وإذا ما أردنا الحصول عليها علينا أن ندفع ضعف قيمتها، أو أضعاف كثيرة في حال أن الدولة هي من كانت توفر هذه الخدمات.

4

بالطبع أنا أكتب لأولئك الذين أصبح لديهم طاقة شمسية تمكنهم من شحن تلفوناتهم والإطلال على مواقع التواصل الاجتماعي. غير أن هذا لا يمنعني من الكتابة عن أولئك الذين لم يتمكنوا حتى الآن، ولا يبدو أنهم سيتمكنون من شراء منظومة طاقة شمسية. وما حاجتهم أصلا للطاقة الشمسية؟ فهؤلاء وهم أكثر من نصف سكان اليمن، ليس لديهم هواتف ذكية، وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة، يصادف أن هؤلاء هم أنفسهم من لا يجدون ثمن الوجبة القادمة. أنهم في مجاعة يومية. أنهم أميون. أنهم في قرى بعيدة، في سهول نائية، على قمم الجبال، ويحصلون بالكاد على سعرات حرارية تجعلهم قادرين على مواصلة الحياة.

إذا كنا سنسامح كل تلك الجرائم المرتكبة بحقنا، فأنه من غير الأخلاقي بل من العار أن نسامح من أرتكب الجريمة بكل أوجهها القديمة بكل أوجهها الحديثة، بحق أولئك الناس. نعرف لقد تفننت الجريمة في صناعة حاجز منيع بيننا وبينهم. لكن إذا كان للحرب من حسنة، فهي أنها بعثت إنسانيتنا، وبعثت حس التضامن، ذلك الحس الذي هو الجوهر الإنساني في كامل ألقه.

عندما يحدث شيء لنا، فمعنى هذا أن هناك من توطأ بما يكفي ليحدث لنا هذا. علينا أن نعرف أي قدر من الحقد سوف يتملكنا إذا ما أدركنا هذه الحقيقة، وأي حقد أعظم سنستدعيه لو أدركنا أن هناك من لا يزال يتواطأ حتى ونحن في قلب المعاناة.

اعتقد أنه علينا التوقف عن مشاهدة جرج قرداحي وبرنامجه المسامح كريم، علينا التوقف عن مشاهدة أي شيء آخر، والتفكير بأولئك الذين لا يجدون ثمن الخبز، ولأن هذا لا يكفي، علينا أن نعرف من يمارس هذه الجريمة بحقنا وحقهم، ولماذا يمارسها، وما السبيل لوقفها، وكيف يمكننا إنزال العقاب المناسب بحق مرتكبيها؟ هذا هو ما يمكن القول أنه التضامن الإنساني الحقيقي.

5

لعل الإعجاب تملكنا ونحن نشاهد الدكتورة أشواق ناصر (لست بصدد الإطراء) وهي تقدم المساعدات أولئك المرضى والأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في منطقة التحيتا بمحافظة الحديدة. ظهرت أشواق قبل أيام في برنامج للبي بي سي، وجعلتنا تلك المشاهد حزانى يشعرون طوال الوقت بالخزي والعجز. وكانت الدكتور أشواق هي بطلتنا. أما نحن فلا نستطيع مجاراتها.

لكن ماذا لو عرفنا أن هناك ألف منطقة يمكن تسميتها بالتحيتا؟ ماذا لو عرفنا أن ما شاهدناه مجرد صورة مصغرة وبعيدة لنفس القصص والمآسي التي تدور أحداثها كل يوم في الأحياء القريبة منا؟

هل علينا أن نبحث عن أشواق أخرى، أم أنه سيقع علينا واجب الشعور بالعجز مجددا؟

لابد أن يكون هناك إجابة أخرى تجعلنا في تسوية دائمة مع الضمير. هذه الإجابة هي في القتال دون هوادة وبكل الوسائل ضد كل أولئك الذين يتفننون في صناعة المعاناة، ضد كل أولئك الذين يسوقون أبناء الفقراء للقتال والموت بينما أبنائهم يجوبون دول العالم وينزلون في فنادق خمسة نجوم.

ثمن الأسلحة التي أصبحت تقتلنا اليوم، تكفي لإنهاء كل هذا البؤس المستشري. لن نقول الأموال التي تم نهبها من ثروات بلدنا ومن اقتصادنا. فقط قيمة تلك الأسلحة.

أم أولئك الجنود، فقد تعلموا فنون القتال ودرسوا في الكليات العسكرية وصرفت الدولة عليهم مبالغ باهظة ليكتسبوا كل مهارات القتل والموت، في البداية لكي يحمونا، لكنهم في النهاية هم أنفسهم من يقومون بقتلنا. وهذه هي إحدى المعادلات التي علينا حلها ضمن اختبارات المستقبل، ولكي نثبت أننا فعلا جديرين به.

أحد الأوجه البشعة للجريمة، هي أن أولاد الفقراء، أولاد القبائل المحرومين من كل شيء، يتم سوقهم كل يوم إلى الموت. لا لشيء إلا لكي تتوطن الجريمة أكثر، ولكي تصادر حياتنا ومستقبلنا بنفس الطريقة التي تم فيها مصادرة الماضي. الجهل والمرض والأمية، هي بعض تلك الأوجه القديمة للجريمة.

معرفة أبسط الحقائق تجعلنا، معنيين بالأمر، نحن فعلا معنيين، للوقوف بوجه الجريمة بشكل نهائي وبلا تردد. لأن هذه الجريمة، لكي تنمو وتتنامى وتستفحل، صرف عليها ولا يزال من أموالنا. وإذا أردنا وقفها فعلينا أن ندفع دماء قلوبنا.

قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

 

قراءة 1534 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة