سميح القاسم.. يخرج من صورته... ويمضي

  • الاشتراكي نت / الثوري - جمال جبران

الخميس, 21 آب/أغسطس 2014 02:48
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

كتب سميح القاسم وقال ‌»سأخرج من صوتي ذات يوم، وها هو يخرج الان ويصعد إلى الاعلى. مات شاعر الناس الطيبين والمقاومة النبيلة . تخسر فلسطين اليوم واحدا من نجومها وأصواتها التي ما توقفت يوما عن إيصال فكرة الالم الفلسطيني المكثف إلى العالم . يموت سميح القاسم اليوم بعد أن انتصر السرطان أخيرا على كبده فأنهاه بلا رحمة أو تفهم لضرورة بقانه مسافة أخرى من الوقت كي يقف إلى جوار أهله فر غزة التي تقف وحيدة اليوم أمام قبح العالم الذي يهبطعلى أرضها النبيلة ويقتل . منتصب الهامة مات ومشى إلى الاعلى كي يلقى رفيق دوبة محمود درويش وشقيق الوطن والروح والقصيدة. كلاهما رحلافي  الشهر نفسة. كأنما اتفاق هو تم توثيقه في تلك الرسائل التي كان يتبادلانها بين باريس وفلسطين.

هنا في هذه المساحة لا نقول بموت سميح القاسم ولكن نحتفي بالحياة الثانية التي كتبت له.

اشرحْ لهم... اشرحْ لهم صبرَك

 من رسائل محمود درويش إلى سميح القاسم  "الرسالة الأخيرة"

عزيزي سميح..

بين عاصفةٍ وعاصفة، قد نجد مَقعداً للحنين أو للوداع. طوبى لهذه السُّكنى القصيرة المُسَوّرة بالرّيح. ولكن، لماذا تخشى السُّخرية؟ إذا كان لا يروقُكَ تعريفُها بأنّها "اليأس وقد تهذّب"، فإنّ في مَقدوركَ أنْ تُسمّيها ما شئتَ، شرط أن تدرأ عنكَ البُكاء.. وأن تقترحَ وردةً على الليل.

 أمُّكَ، أمّ قاسم، أمُّنا المُشتركة، تنامُ أخيراً على مِتْرٍ من وطن. كيف أواسيكَ وأنتَ على مَقرُبةٍ من ثراها! خُذْ قصفةً من حَبَق واذهبْ إليها، وقبِّلْ ثوبَها التّرابيّ باسمي. كلّمتُها منذ شهر ولم تقلْ لي إنها ستغادر ذاك البيتَ القديمَ. كلّمتُها ولم تُخبرني بأنها ستذهب بهذه السُخرية العبثيّة إلى النهاية.

 لا أذكرُ منها غيرَ جمالها الناطق وصَلاتِها الصامتة على ولدين منذوريْن لما يٌقلِقُ الأمّهات. قالت إنها قويّة وستحيا من أجلك. والآن، لا أستطيعُ أن أتخيّلكَ بلا أمّ أيّها الطفلُ الأبديّ. لقد اختارتْكَ أنت، لتكونَ يوسفَ قلبِها. ألأنّكَ جديرٌ بكلّ حُبّ؟ أم لأنكَ ذاهبٌ في طريق الشقاء والحُريّة؟

 كل الذين نحبّهم ذهبوا... وسيذهبون.

 لا تنسَ أن تنثرَ عليها ما وسعكَ أن تنثرَ من حَبَق. ألم تكنْ هي سيّدةَ الحبَق، كلّما فركْنا يدَها أو ثوبَها صرخَ العطرُ بنا ونهانا عن انكسارٍ لا يَليقُ بأغنيةٍ صاعدة. ولكنّ لكَ، يا عزيزي، أمّاً ثانية. لكَ أمّي التي كفّتْ، منذ سنوات، عن إدراك الفارق ما بيني وبينك. عرّجْ عليها في طريقِكَ من حيفا إلى الرّامة، لتُعوّضَ عنكَ غيابَ "أمّ قاسم". عرّجْ على "أم أحمد" لتعوّض عنها رحيلي الطويل.

 "آه من قلّة الزاد، وطول الطريق، وبُعد السفر". كم تمنّينا أن تكون معنا في صنعاء. لقد نشر الأخوة اليمنيّون حسرتَك: "هل سيكون عليّ أن أموتَ مثل طائر في قفص؟ صحيح أنني أحوم كثيراً في هذا العالم، إلاّ أنه يظلّ على رَحابته قفصاً ضيّقاً على جناحين يعتقدان أنّ سماءهما الحقيقية والأولى والأخيرة هي سماءُ الرُّبْع الخالي من بلاد العرب العامرة".

 وجاءني أكثر من أب يمنيّ مُطالباً بتحقيق رغبتك بمُداعبة شِعر طفلٍ يمنيّ. وظلّوا يسألون: لماذا لم يأتِ إلى صنعاء؟

 كيف أشرح للناس ما لا يُشرَح إلا بالسخرية. كيف أشرح لهم أن قانون الجيتو الإسرائيلي سيحاكمك، لو جئت إلى أرض العرب، بتهمة الاتصال بالعدوّ؟"

 على ألف مسرح أن ينهار أمام صرخة لم تصرخ: كيف؟

 إنّ عليك أنت، يا عزيزي، أن تفجّر هذا الحرمان الجهوريّ. لأنّ اللامعقول الذي أنت فيه صار معقولاً إلى حدّ يحتاج إلى شهادتك وإلى صرختك. أنت، أيّها العربيّ الممجّد لأنك هناك حارساً لشجر الخرّوب ولون السماء. أيّها العربيّ المقدّس لأنك في القدس جسداً للمعنى وحماماً يطير على جامع ومسجد وخوذة. أنت أيها العربيّ الواضح لذاتك كتضاريس حجر. أنت أيها العربي المدفوع إلى هاوية الغموض المحيط بأجمل ما فينا من وضوح. اشرحْ... اشرحْ صبرَك، واشرحْ لأهل اليمن حقّ راعي البقر اليمنيّ، إذا كان يهودياً، في دفعنا من الحقل إلى ما وراء السياج. واشرحْ شرطَ قداستك في أن تكون هناك بأن يكون وطنك الصغير "وطن اليهود فقط" وبأن يكون وطنك الكبير "وطن الأعداء"!!

 اشرحْ صبرك، أو فاشرحْ ضيقَ صبرك.

فهل سيفهم أحد ما تعاني، وما تكابد. أيّهذا الناجي من العواصف بعاصفة، أيّهذا الطاهر في وحْل المفارقات.

لكن الأبيض أبيض!

 لم يحدث في تاريخ السطو البشريّ، يا عزيزي، ما يشبه هذا السطو، كأن يرافق الطرد من الوطن بمحاولة الطرد من الوعي والهوية. وكأن نعجز عن قول ما هو مقول في الواقع بطريقة لا تخرّب توازن الكرة الأرضية. فعندما يتحوّل الاحتلال إلى "وطن وحيد" للمحتلّ تصير مطالباً بأن تعتذر عن كلّ سليقة، وبأن تبرز أناقة قتلك بخصوصية لا تؤذي سمعة الخنجر المغروس في لحمك، لا لشيء إلا لأنّ شخصاً آخر قد قتل والد قاتلك في مكان آخر. أنت... أنت الثمن. ولا لشيء، إلا لأنّ القاتل ليس خائفاً من القتيل مرة أخرى فقط، بل لأنه خائف من أن يفقد هوية الضحية.

أنت.. أنت الثمن.

 لم يحدث في تاريخ الجريمة قط ما يشبه هذه الجريمة: كأن تُمنع الضحية من تسمية قاتلها، وكأن تُمنع الضحية من مطالبة قاتلها بالتوقف، قليلاً، عن القتل من أجل حوار عابر!

 إلى الجحيم.

إلى الجحيم.

فالقاضي هو القاضي... هو القاتل المتقاعد.

والشاهد هو الشاهد.. هو قاتل والد القاتل المُطالب بتكفير عن ذنبه القديم بالتواطؤ مع القاتل الجديد.

 وهكذا نُسأل: لماذا تعكّرون صفو الاحتلال؟ لماذا تطالبون المحتل بالانصراف. إلى أين ينصرف وقد صار الاحتلال هو الوطن الوحيد؟

ليس من حقك أن تقول: ليس هذا الشأن شأني. فإن عليك أنت، الضحية، أن تضمن الحدود الآمنة والخارطة الغامضة الآمنة للآخرين في جسدك. وعليك أنت أن تقف خارج جسدك. وعليك أنت وحدك أن تجد حلاًّ لمصير جلاّدك قبل التفكير في البحث عن حلّ لمأساة وجودك.

 اشرحْ، اشرحْ لهم صبرك.

 وسيسألونك: إذا دخل لصٌّ بيتاً، وفوجىء بقبّعة صاحب البيت معلّقة على المشجب، فمات من الخوف. فمن سوف يكون المتهم بالقتل: هل هي القبّعة.. أم صاحب البيت الذي علّق القبّعة؟

 سيكون اللصّ بريئاً كالمعتاد!!

 ولكن إذا قتل جنديّ إسرائيلي طفلاً فلسطينيّاً، فمن هو القاتل؟ هل هو الجنديّ، أم الطفل الذي هيّج أعصابَ الجنديّ بلعبة الحجر، فأرغمه على قتله. ثم عالج عذاب ضميره بالبكاء؟

ما دام القاتل يبكي فإنه بريء. وما دامت الضحية عاجزة عن البكاء فإنها متهمة بالتسبّب في القتل، وبموت الضمير..

 إلى الجحيم.

إلى الجحيم.

.. وآه من قلّة الزاد، وطول الطريق، وبُعد السفر.

 وكم افتقدناك في صنعاء، فبعد مؤتمر القمّة العربيّ "الطارىء" جداً الذي انعقد بعد ستة أشهر من اندلاع الانتفاضة، انعقد مؤتمر قمة المثقفين العرب لدعم الانتفاضة ليكتشفوا أن الانتفاضة هي التي دعمتهم في عملية عودة الروح إليهم...

 كان المشهد جميلاً في وطن العرب الأول. وكانت النوافذ العربية، من صنعاء إلى مراكش، تطلّ على ساحة الحرية الأولى التي افتتحها الطفل الفلسطيني. وكنا نسأل هل كنا في حاجة إلى حجر لنعرف كيف لم تثلم روحنا، ولنعرف أننا عربٌ إلى هذا الحدّ؟ وكنا نتساءل: لقد أعطتنا الانتفاضة ذاتنا المفقودة، فماذا أعطيناها. وكنا نحتجّ: كيف نناصر أنصار الانتفاضة ضدّ آلة القمع الرسميّ في الوطن العربي الخالي من الحجارة؟

 سوف يبقى المثقف العربيّ حائراً. لقد وجد ذاته ولم يجد، بعد أداته، وكنتُ أتابعُ الصدى: "بقدْر ما نبحث عن وسائل الترابُط والتجاوُب بين الفعل البطوليّ الفلسطينيّ وبين الفعل الثقافي العربيّ، فإننا نلتصق أكثر بدورنا وذاتنا، ونصوغ مقدّمات مستقبل آخر للعلاقة بين الثقافة والواقع.

 وكنتُ أتابع الصدى: "إنّ فلسطين كانت دائماً أغنيتنا المنشودة وجنتنا المفقودة، تتقدّم الآن منا وطناً ملموساً قابلاً للاستعادة، ولها ولمعناها المتحرّر والحُرّ في وطننا الكبير، وللعلاقة الاحتفالية بين حرية الإبداع وبين إبداع الحرية...

 وكنت أتابعُ الصدى: "ليس للانتفاضة في لغتنا من وصف أدبيّ، فهذا الاختلاط الواقعيّ والطقوسيّ بين الوجع العظيم وبين الفرح العظيم في عملية الولادة الكبرى، ما زال يدفعنا إلى كسر الغياب الذي هدّد اللغة بالانكسار. كل شيء فينا يُعيد ترميم أوّله الصّلب، ويحمل الالتزام إلى منطقة كادت تبتعد: إلى منطقة أكثر عفويّة وسليقة، وأكثر مرونة نظريّة.

 وكنتُ أتابعُ الصدى: "لقد خرجتْ فلسطين ممّا كادت أن تدخل فيه من مُخيّلة، خرجتْ فلسطين من الاستعارة، وخرجتْ من الأسطورة. قفزت من النصّ إلى الواقع كنسرٍ يقفز من لوحة منحوتة. لقد عاد الوطن من المنفى إلى المكان. إن فلسطين، كما تتجلّى في الانتفاضة، هي شعب يقاوم الاحتلال على أرض الوطن المحتلّ. هي شعب، لا مفهوم ولا نشيد. هي شعب يرفع بالأجساد الدامية مطالب وطنيّة ملموسة ومحددة، علينا أن نتبناها.

 وكنتُ أتابعُ الصدى: "تقول لنا الانتفاضة، بأدواتها الإنسانية المتفوقة التي تقاوم الوحش، وبإصرارها على الاستمرار، تقول لنا كما تقول للعدوّ: إنّ الحلّ ممكن. إنّ الحلّ واقعيّ وممكن ولا يتقصه من فرص التنفيذ الفوريّ غير ما ينقص الوضع العربي الرسميّ من ضرورة انقلاب على المنهج، ومن تحرّر من التبعيّة الكاملة للإرادة الأمريكيّة – الأب الشرعيّ شبه الوحيد لمشروع التوسّع الصهيوني، ممّا يحرم الانتفاضة من قوى عربية قادرة على اختصار طريق العذاب. وإذا كنا نلاحظ ما أحدثته الانتفاضة من تأثير إيجابي على الوعي العام الإنساني، وما أحدثته من خلخلة في الوعي الإسرائيلي المتخبّط في مأزق تكوينه الأوّل، وفي عبثية الخلط الشقيّ بين الحدود والوجود، فإننا نلاحظ مَظاهر العجز العربيّ الرسميّ عن ممارسة فعل يدفع المأزق الإسرائيليّ إلى زاوية أضيق، ويفتح أمام الانتفاضة آفاقاً أوسع. إن مقاومة ما يشبه الحصار الذي يضربه العجز العربيّ على الانتفاضة وعلينا هو أحد مهامّنا العاجلة".

 كان ذلك هو الصدى.

أمّا الصوت، فإنه قادم من هناك: من بلاغة الحجر، ومن بساطة الحجر...

  أخوك محمود درويش

(باريس – 21/6/1988)

لحظة يا سميح القاسم

فتحي ابو النصر

سميح القاسم مات..

ستفتقد الثقافة و الفكر العربي والأممي شخصية نزيهة وصلبة وذات احترام كلي، بينما شكل تجربة شعرية بارزة لها طابعها النوعي المتفرد في المقاومة والعشق على مدى عقود.

أتذكر الأن قصائده القديمة عن صنعاء وعدن (لأكثر من سبب ولأكثر من حنين أيضا!) مع انها ضمن عديد قصائد صاخبة له غير متوافقة مع ذائقتي، ومع ذلك لا املك سوى ان أقدرها بدون تحفظ.. ثم انها أنتجت مرحلة ارتفاع النبرة المباشرة في الشعر العربي الحديث "وتسيسه".. مرحلة الستينيات خصوصا وشيء من السبعينيات، وهي مرحلة لها خصوصياتها وظروفها الاستثنائية شديدة التأثير على مستوى النصر بكل المقاييس. إلا ان سميح القاسم -نجح رغم كل شيء ولو بطيئا مقارنة بدرويش مثلا-في تطوير شعريته ورؤاه إلى حد مبهر.

وأما بشكل خاص وحميمي فإنني أعتز بتقديسي لرسائله مع محمود درويش متلاقحة مع رسائل الأخير له، والعكس.. في حالة هارمونيكية متناغمة تصاعدا وهبوطا وامتزاجا وافتراقا في اثارة المعنى وابعاده داخل النقاش الفلسفي والجمالي والابداعي والوطني والانساني والعاطفي...الخ.

ذلك الكتاب الأيقونة الذي يخلف أثرا لا يمحى في الوجدان والوعي ولا يستجدي تصفيق الجماهير التي تتلذذ باستلابها كينونة المبدع العميقة فقط!

هناك حيث الادهاش المتجلي والناضج لهمس غريبين كونيين عظيمين كسميح ودرويش.. هناك حيث المرأة الحقيقية لذروة تجليات مبدعين كبيرين إنسانيا، وشاسعين في وعيهما بالذات والأخر، كما بفلسطين تاريخا وهوية وجغرافية وقضية ومصير، فضلا عن تمجيدهما للإنسانية كهوية، وبالتفاصيل الصغيرة في هذه الحياة

العابرة التي يجب ان نحياها كنشيد كرامة وسلام وحرية بكل أخلاقية قيمية يميزها اتساقها المكابد بأفقها الانساني اللامحدود والمقاوم للشر وللهيمنة وللتوحش وللاستغلال وللاعدالة في هذا العالم.

إلى ذلك يقفز في خاطري الآن اعتزازه المتفوق بأنه من نسل القرامطة الذين هاجروا إلى الشمال واستقروا بفلسطين. فأتذكر روح جدنا علي بن الفضل الذي تعرض للتشويه الممنهج واللامعقول من قبل المعتوهين والحمقى الذين سطو على التاريخ وزيفوه، كما أتيقن بالمقابل من ان الروح الأصيلة والواسعة للشيوعي الكبير سميح القاسم لم تأت من فراغ أبدا.

سميح القاسم الذي كان "اشد من الماء حزنا"ونبالة بالتأكيد لا يموت.. لا يموت في ذاكرة الهم الفلسطيني على الاطلاق.

سميح القاسم آخر الراحلين من "ثالوث|" شعراء المقاومة.

حسين بن حمزة

رحل سميح القاسم (1939 ـــ 2014). رحل صاحب «لا أستأذن أحداً» من دون أن يستأذن فعلاً. كنا نعرف منذ سنوات أنه يُعالج من السرطان، وعرفنا أخيراً أنّ صحته تدهورت، وأنه يحتضر في أحد مستشفيات مدينة صفد شمال فلسطين المحتلة. الخبر الذي كان شبه مؤكد صار مؤكداً ليلة أمس، ورحل الشاعر الذي شكل ذلك الثالوث الشهير في شعر المقاومة الفلسطينية مع توفيق زيّاد ومحمود درويش. هو الذي كوّن ثنائياً تجاوز فكرة المقاومة والهوية الفلسطينية، إلى صداقة شخصية وشعرية مع درويش.

ولعل علاقته الثنائية هذه جعلته بطريقة ما الطرف الأقل شهرةً ونجومية، وقد يرى بعضهم أنه كان الطرف الأقل شعرية أيضاً، وإن كان شاعراً بارزاً ومتمكناً بالطبع. كان القاسم «ضحية» هذه الثنائية، و«ضحية» هويته الفلسطينية، وانتمائه إلى شعر المقاومة الذي – رغم أهميته وجماهيريته – لا يتذكره النقاد العرب إلا في نطاق محصور بالنضال والمقاومة. لا نقصد بالضحية هنا معناها الحَرْفي طبعاً، بل نشير في لحظة غيابه إلى أن هذا النوع من التجاهل النقدي أكسبه حضوراً أقل مما يستحقه، أو أنه غيّب التقدير الحقيقي لهذا الحضور. هكذا، تحول سميح القاسم إلى اسم ورمز، وحُجب جزء من شعره ونثره وراء هذا الاسم الأيقوني المستند بدوره إلى الأيقونة الكبرى فلسطين.

الشاعر الذي ولد في قرية «الرامة» عام 1939، وانتسب إلى الحزب الشيوعي في شبابه، واعتقل وفرضت عليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي الإقامة الجبرية أكثر من مرة، وترأس عدداً من صحف الداخل الفلسطيني، حظي مبكراً بمكانته الأدبية واسمه الشعري لدى الجمهور الفلسطيني والعربي. ولا يزال من عاصروا تلك الفترة التي امتزج فيها الشعر بالمقاومة الفلسطينية، يتذكرون كيف شاعت قصائد درويش والقاسم وزيّاد، وسكنت وجدان الجماهير العربية، وتحولت إلى أناشيد على ألسنتهم. نتذكر حضورهم في قصيدة نزار قباني الشهيرة «شعراء الأرض المحتلة» التي كتبها عام 1968، ونتذكرهم في كتاب غسان كنفاني «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة» الذي صدر عام 1967، ونتذكر الحفاوة التي استُقبل بها درويش بعد خروجه من فلسطين عام 1971، ونتذكر قصائد توفيق زياد ومرافعاته الأخلاقية ضد سياسات إسرائيل داخل الكنيست، وقصائد سميح القاسم وارتباطه بالأرض. نتذكر للثالوث الشعري نفسه ثلاث قصائد شكلت جوهر شعر المقاومة في تلك الحقبة التي أعقبت هزيمة حزيران، وصعود الكفاح الفلسطيني بعد تأسيس «منظمة التحرير الفلسطينية». ثلاث قصائد لا تزال كلماتها تتردد في الوجدان الفلسطيني والعربي، وهي: «سجل أنا عربي» لدرويش، و«هنا باقون» لزيّاد، بينما كان نصيب القاسم قصيدته «خطاب في سوق البطالة» التي اشتهرت أكثر باسم «يا عدوّ الشمس»، وفيها كتب:

"ربما تسلبني آخر شبر من ترابي

 ربما تطعم للسجن شبابي

 ربما تسطو على ميراث جدي

 من أثاثٍ وأوانٍ وخوابِ

 ربما تحرق أشعاري وكتبي

 ربما تطعم لحمي للكلابِ

ربما تبقى على قريتنا كابوس رعبٍ

 يا عدوّ الشمس لكن لن أساوم

 وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم".

سميح القاسم هو ابن هذا المعجم الفلسطيني، وابن تلك العجينة الخصبة التي اتحد فيها العرب في قضية واحدة. فلسطين أعطت القاسم (كما أعطت أقرانه الآخرين) بطاقة عبور إلى ذاكرة الناس، وتحولت قصيدته «منتصب القامة أمشي» بصوت مرسيل خليفة إلى نشيد ثوري. قليلون من ميزوا داخل هذه الصورة النضالية المباشرة للشاعر، أنه شاعر حب وشاعر تفاصيل وشاعر ألم، والأهم أنه شاعر حقيقي بصرف النظر عن ذلك الاقتران الأبدي بين شعريته وبين «شعرية» فلسطين.

اشتُهر سميح القاسم في صورة الشاعر والمناضل، ولكنه كتب نثراً مرموقاً في مقالاته وسردياته. وكما كان شاعر ديوان حماسيٍّ مثل «دمي على كفي»، كان صاحب رواية مدهشة ومؤثرة مثل «الصورة الأخيرة في الألبوم». وإلى جانب سيرته الإبداعية، ترأس «الاتحاد العام للكتاب العرب» في فلسطين منذ تأسيسه، وكان في السنوات الأخيرة رئيس تحرير فصلية «إضاءات»، ورئيس التحرير الفخري لصحيفة «كل العرب» التي تصدر في مدينة الناصرة.

غاب سميح القاسم في اللحظة التي لا تزال فيها غزة تُقصف والفلسطينيون يقاومون ويستشهدون. كأن الزمن «تواطأ» مع الشاعر لكي يعود اسمه إلى قلب المشهد اليومي، ويكون آخر الراحلين من ثالوث شعراء المقاومة.

منتصب القامة

سميح القاسم

منتصبَ القامةِ أمشي مرفوع الهامة أمشي

في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي....

قلبي قمرٌ أحمر قلبي بستان

فيه فيه العوسج فيه الريحان

شفتاي سماءٌ تمطر نارًا حينًا حبًا أحيان....

في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي

1984

وترحل يا سميح القاسم..

خليل الزكري

وترحل يا سميح القاسم.. وفيك شعب يقاوم.

وترحل بأوجاع التشرد والجوع والقتل وهناك من يساوم.

وترحل بأخر القصائد ويظل حرفك حرٌ يقاوم يقاوم...

لترقد روحك بسلام بعد تعب البحث عنه

السيرة الذاتية

·  أحد أبرز الشعراء المعاصرين، الذين ارتبطت أسماؤهم بـ"شعر الثورة والمقاومة" في العالم العربي،

· ولد عام 1939، في مدينة الزرقاء الأردنية، لعائلة فلسطينية من قرية "الرامة"

· تلقى تعليمه في مدارس "الرامة" و"الناصرة" عمل معلماً بإحدى المدارس،

·انتقل بعد ذلك إلى النشاط السياسي في "الحزب الشيوعي" وتعرض للاعتقال في السجون الإسرائيلية عدة مرات، بسبب كتاباته الأدبية ومواقفه السياسية.

· بدأ مسيرته الشعرية، عام 1958 بمجموعة "أغاني الدروب"،

· صدر له أكثر من 60 كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة، كما ترجمت العديد من قصائده إلى لغات العالم المختلفة، وحصل على العديد من الجوائز العالمية، وتم منحه العضوية الشرفية في عدّة مؤسسات إقليمية ودولية.

· من رواياته القصيرة، "إلى الجحيم أيها الليلك"، و"الصورة الأخيرة في الألبوم". كما كتب المقالة الصحافية السيارة التي تدور حول الحدث، ومقالات النقد والدراسة الأدبية.

قراءة 1376 مرات آخر تعديل على الخميس, 21 آب/أغسطس 2014 03:19

من أحدث

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة